عن المدونة

العنوان 1

Go to Blogger edit html and find these sentences.Now replace these sentences with your own descriptions.This theme is Bloggerized by Lasantha Bandara - Premiumbloggertemplates.com.

العنوان 2

Go to Blogger edit html and find these sentences.Now replace these sentences with your own descriptions.This theme is Bloggerized by Lasantha Bandara - Premiumbloggertemplates.com.

العنوان 3

Go to Blogger edit html and find these sentences.Now replace these sentences with your own descriptions.This theme is Bloggerized by Lasantha Bandara - Premiumbloggertemplates.com.

العنوان 4

Go to Blogger edit html and find these sentences.Now replace these sentences with your own descriptions.This theme is Bloggerized by Lasantha Bandara - Premiumbloggertemplates.com.

العنوان 5

Go to Blogger edit html and find these sentences.Now replace these sentences with your own descriptions.This theme is Bloggerized by Lasantha Bandara - Premiumbloggertemplates.com.

السبت، 9 يونيو 2012

دواوين

الخميس، 7 يونيو 2012

مَجْلِسُ حُرُوْفْ

تَمُرُ بِنَا لَحَظَاتْ


نَكَادُ تَهْوِي بِنَا عَلى مَشارِفِ الصَمْتْ

فَنَبْحَثُ فِيْهَا عَنْ مَلاَمِحَ تُشْبِهُنَا ، وَ لاَ تَكْتَفِي بالتَحْدِيْقِ فَارِغَةً كَلَمَا طَرَأَتْ عَلَيْهَا طَارِئَةٌ 
لِتُبِِِِْعِدَ عَنَّا ذَلِكَ الخَرسَ الذِي لاَيعرف سِوى السكوتْ والذهُول  ..! 

هُنَا مُتَكَاٌ لِبَوْحِكُمْ 
لِتَزْفُرُوا بَعْضًا مِنْ نَبَضَاتِ إِحْسَاسِكُمْ

وَلِتَعْزِفُوا مَقْطُوْعَةً تَنْسُجُ حَالَتَكُمْ  النَفْسِيَة ، وَتَعْكِسْ ذَاتَكُمْ


هَنَا فِي 
 
مَجْلِسُ حُرُوْفْ



سَتُفْتَحُ الأبْوَابُ لَكُمْ ، لِتَنْثَرُوا هَمَسَاتِكُمْ وَزَفَرَاتِكُم  اليوميـه ,,
فِي نَسْجٍ مِنْ بَوْحْ 

لِتُفْتَحَ كُل الخَزَائِنِ المؤْصَدَة بالصَمْتِ وَ الكَئَابَة

وَ لِتُرْفَعَ رَايَاتُ الكَلِمِ زَاحِمَةً جَوَّ السَمَاءْ 

وَمْضَة ~
مَجْلِسُ حُرُوف فُسْحَةٌ لِلنَقْدِ البَنَّاءْ ، فَلا ضَيْرَ مِن التَعْلٍقِ وَالتَعْقِبْ.





كُوْنُوا بِالقُرْبْ

الاثنين، 4 يونيو 2012

مَا كَانَ حَدِيْثًا يُفْتَرَى 


وَلا  فُتونًا  يَتَرَدَدْ ، ذَلِكَ الذِي يَرْوِي بِهِ التَارِيْخُ أَبْنَاءَ أَعْظَمِ ثُلَةٍ فِي دُنْيَا العَقِيْدَةِ وَالإِيْمَانْ 


نَرى فِيْهِمْ إِيْمَانَهُمْ ، وَ ثَبَاتَهُمْ ، وَبُطُوْلَتَهُمْ ، وَوَلاَئَهُمْ  للهِ  وَرَسُوْلِِهِ  الكَرِيْمْ



وَنَرَى الدَوْرَالجَلِيْلَ الذِيْ بَدَلْوهُ  لِتَحْرِيْرِ البَشَرِيَةِ  مِنْ وَثَنِيَةْ الضَميْرْ 




دَعُوْنا إِذَنْ نَتَقَرَبُ فِيْ خُشُوْعٍ وَغِبْطَةٍ مِنْ أُلئكَ الرِجَالِ الأَبْرَرْ ، لِنَسْتَقْبِلَ فِيْهِمْ أَرْوَعَ نَمَاذِج البَشَرِيَةْ الفَاضِلَةْ وَأَبْهَاهَا 


وَلِنَرَى تَحْتَ أَسْمَائِهِم المُتَوَاضِعَةِ أَسْمَى مَا عَرَفَتْ الدُنْيَا مِنْ عَظَمَةٍ وَرُشْدٍ ، 


وَلِنَشْهَدَ كَتَائِبَ الحَقِ وَهِيَ تَطْوِي العَالَمَ القَدِيْمَ بِأَنَامِلِهَا زَّاحِمَةً جَوَ السَمَاء~  بِرَايَاتِ الإِعْجَابِ






                  هَلُمُوا أَحْبَابَ الرَحْمَانْ

أبو بكر الصديق

من هو أبو بكر الصديق أبو بكر الصديق ) 


هو عبدالله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي، ويلتقي مع النبي في النسب في الجد السادس مرة بن كعب ويكنى بأبي بكر، وهي من البكر وهو الفتى من الإبل، والجمع بكارة وأبكر وقد سمَّت العرب بكراً، وهو أبو قبيلة عظيمة ولُقب أبوبكر، 
ألقابه ) 
لقب الصديق بألقاب عدة ، عكست سمو مكانته ورفعته

- العتيق:

لقبّه به النبي ؛ فقد قال له: (أنت عتيقُ الله من النار) فسُمِّيَ عتيقاً وفي رواية عائشة قالت: دخل أبو بكر الصديق على رسول الله ، فقال له رسول الله: (أبشر فأنت عتيق الله من النار)، فمن يومئذ سُمي عتيقاً، وقد ذكر المؤرخون أسباباً كثيرة لهذا اللقب، فقد قيل: إنما سمي عتيقاً لجمال وجهه، وقيل لأنه كان قديماً في الخير، وقيل سمي عتيقاً لعتاقة وجهه، وقيل إن أم أبي بكر كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لي، ولا مانع للجمع بين بعض هذه الأقوال، فأبي بكر جميل الوجه، حسن النسب، صاحب يد سابقة إلى الخير، وهو عتيق الله من النار بفضل بشارة النبي له.

- الصديق:

لقبه به النبي ففي حديث أنس أنه قال: أن النبي صعد أحداً، وأبوبكر، وعمر، وعثمان، فوجف بهم فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان.

وقد لقب بالصديق لكثرة تصديقه للنبي، وفي هذا تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فتقول: لما أسري بالنبي إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناسُ، كانوا آمنوا به وصدقوه وسعى رجال إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أن أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك فقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟!! قال نعم ، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبوبكر الصديق.

وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصديق لأنه بادر إلى تصديق الرسول  ولازمه الصدق فلم تقع منه هناة أبداً، فقد اتصف بهذا اللقب ومدحه الشعراء:

قال أبو محجن الثقفي:

وسُمِّيت صديقاً وكل مهاجر

سواك يُسَمَّى باسمه غير منكر

سبقت إلى الإسلام والله شاهد

وكنت جليساً في العريش المشهر

وأنشد الأصمعي، فقال:

ولكني أحبّ بكل قلبي

وأعلم أن ذاك من الصواب

رسول الله والصدِّيق حبَّاً

به أرجو غداً حسن الثواب

- الصاحب:

لقبه به الله عز وجل في القرآن الكريم: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة، الآية:40) وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود هنا هو أبوبكر، فعن أنس أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي وهو في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).

قال الحافظ رحمه الله: ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا.... إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}فإن المراد بصاحبه هنا أبوبكر بلا منازع، والأحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة ولم يشركه في المنقبة غيره.

- الأتقى:

لقبه به الله عز وجل في القرآن العظيم في قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} (سورة الليل، الآية: 17). وسيأتي بيان ذلك في حديثنا عن المعذبين في الله الذين أعتقهم أبوبكر.

- الأواه:

لقب أبو بكر بالأواه وهو لقب يدل على الخوف والوجل والخشية من الله تعالى، فعن إبراهيم النخعي قال: كان أبوبكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته.

  مولده وصفته الخَلْقية

لم يختلف العلماء في أنه ولد بعد عام الفيل، وإنما اختلفوا في المدة التي كانت بعد عام الفيل، فبعضهم قال بثلاث سنين، وبعضهم ذكر بأنه ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وآخرون قالوا بسنتين وأشهر ولم يحددوا عدد الأشهر، وقد نشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز في قومهما مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس، عزيز المكانة في قومه.

وأما صفته الخِلقية، فقد كان يوصف بالبياض في اللون، والنحافة في البدن، وفي هذا يقول قيس بن أبي حازم: دخلت على أبي بكر، وكان رجلاً نحيفاً، خفيف اللحم أبيض، وقد وصفه أصحاب السير من أفواه الرواة فقالوا: أن أبا بكر اتصف بأنه: كان أبيض تخالطه صُفرة، حسن القامة، نحيفاً خفيف العارضين، أجنأ، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه رقيقاً معروق الوجه، غائر العينين، أقنى، حمش الساقين، ممحوص الفخذين، وكان ناتئ الجبهة، عاري الأشجاع ويخضب لحيته، وشيبه بالحناء والكتم.

  أسرته)

أما والده، فهو عثمان بن عامر بن عمرو يكنى أبا قحافة أسلم يوم الفتح، وأقبل به الصديق على رسول الله فقال: يا أبا بكر هلا تركته، حتى نأتيه، فقال أبوبكر: هو أولى أن يأتيك يا رسول الله، فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله ويروى أن رسول الله هنأ أبا بكر بإسلام أبيه، وقال لأبي بكر غيروا هذا من شعره، فقد كان رأس أبي قحافة مثل الثغامة.

وفي هذا الخبر منهج نبوي كريم سنَّهُ النبي في توقير كبار السن واحترامهم ويؤكد ذلك قوله (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا).

وأما والدة الصديق، فهي سلمى بن صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم وكنيتها أم الخير أسلمت مبكراً وسيأتي تفصيل ذلك في واقعة إلحاح أبي بكر على النبي على الظهور بمكة.

وأما زوجاته؛ فقد تزوج من أربع نسوة أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث وهنّ على التوالي:

1- قتيلة بنت عبدالعزى بن أسعد بن جابر ابن مالك:

اختلف في إسلامها( )، وهي والدة عبدالله وأسماء وكان أبوبكر طلقها في الجاهلية- وقد جاءت بهدايا فيها أقط وسمن إلى إبنتها أسماء بنت أبي بكر بالمدينة، فأبت أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها فأرسلت إلى عائشة تسأل النبي فقال النبي : (لِتُدْخِلها ولتقبل هديتها)، وأنزل الله عز وجل {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة المتحنة، الآية:8) أي لا يمنعكم الله من البر والإحسان وفعل الخير إلى الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء، والضعفة منهم كصلة الرحم، ونفع الجار، والضيافة، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا يمنعكم أيضاً من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم، بأداء مالهم من الحق، كالوفاء لهم بالوعود، وأداء الأمانة، وإيفاء أثمان المشتريات كاملة غير منقوصة، إن الله يحب العادلين، ويرضى عنهم، ويمقت الظالمين ويعاقبهم.

2- أم رومان بنت عامر بن عويمر:

من بني كنانة بن خزيمة، مات عنها زوجها الحارث بن سخبرة بمكة، فتزوجها أبوبكر، وأسلمت قديماً، وبايعت، وهاجرت إلى المدينة وهي والدة عبدالرحمن وعائشة رضي الله عنهم، وتوفيت في عهد النبي بالمدينة سنة ست من الهجرة.

3- أسماء بن عُمَيس بن معبد بن الحارث:

أم عبدالله، من المهاجرات الأوائل، أسلمت قديماً قبل دخول دار الأرقم، وبايعت الرسول، وهاجر بها زوجها جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، ثم هاجرت معه إلى المدينة فاستشهد يوم مؤتة، وتزوجها الصديق فولدت له محمداً روى عنها من الصحابة : عمر، وأبو موسى، وعبد الله بن عباس، وأم الفضل امرأة العباس، فكانت أكرم الناس أصهاراً فمن أصهارها: رسول الله وحمزة، والعباس وغيرهم.

4- حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير:

الأنصارية، الخزرجية وهي التي ولدت لأبي بكر أم كلثوم بعد وفاته وقد أقام عندها الصديق بالسُّنح.

وأما أولاد أبي بكر رضي الله عنهم فهم:

1- عبدالرحمن بن أبي بكر:

أسن ولد أبي بكر: أسلم يوم الحديبية، وحسن إسلامه وصحب رسول الله وقد أشتهر بالشجاعة وله مواقف محمودة ومشهودة بعد إسلامه.

2- عبدالله بن أبي بكر:

صاحب الدور العظيم في الهجرة، فقد كان يبقى في النهار بين أهل مكة يسمع أخبارهم ثم يتسلل في الليل إلى الغار لينقل هذه الأخبار لرسول الله وأبيه، فإذا جاء الصبح عاد إلى مكة، وقد أصيب بسهم يوم الطائف، فماطله حتى مات شهيداً بالمدينة في خلافة الصديق.

3- محمد بن أبي بكر:

أمه أسماء بنت عميس، ولد عام حجة الوداع وكان من فتيان قريش، عاش في حجر علي بن أبي طالب، وولاه مصر وبها قتل.

4- أسماء بنت أبي بكر:

ذات النطاقين أسن من عائشة، سماها رسول الله ذات النطاقين لأنها صنعت لرسول الله ولأبيها سفرة لما هاجرا فلم تجد ما تشدها به فشقت نطاقها، وشدت به السفرة فسماها النبي بذلك، وهي زوجة الزبير بن العوام وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير فولدته بعد الهجرة فكان أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، بلغت مائة سنة ولم ينكر من عقلها شيء، ولم يسقط لها سن، روى لها عن الرسول ستة وخمسون حديثاً، روى عنها عبدالله بن عباس، وأبناؤها عبدالله وعروة، وعبد الله بن أبي مُلَيْكة وغيرهم وكانت جوادة منفقة توفيت بمكة سنة 73هـ.

5- عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها:

الصديقة بنت الصديق تزوجها رسول الله وهي بنت ست سنين، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، وأعرس بها في شوال، وهي أعلم النساء، كناها رسول الله أم عبدالله، وكان حبه لها مثالاً للزوجية الصالحة.

كان الشعبي يحدث عن مسروق أنه إذا تحدث عن أم المؤمنين عائشة يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق المبرأة حبيبة حبيب الله، ومسندها يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث (2210) اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين، وعاشت ثلاثاً وستين سنة وأشهراً، وتوفيت سنة 57هـ، ولا ذرية لها.

6- أم كلثوم بنت أبي بكر:

أمها حبيبة بنت خارجة. قال أبوبكر لأم المؤمنين عائشة حين حضرته الوفاة: إنما هما أخواك وأختاك فقالت: هذه أسماء قد عرفتها فمن الأخرى قال: ذو بطن بنت خارجة، قد ألقي في خلدي أنها جارية فكانت كما قال: وولدت بعد موته، تزوجها طلحة بن عبيد الله وقتل عنها يوم الجمل، وحجت بها عائشة في عدتها فأخرجتها إلى مكة.

هذه هي أسرة الصديق المباركة التي أكرمها الله بالإسلام وقد اختص بهذا الفضل أبو بكر من بين الصحابة وقد قال العلماء: لا يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله، إلا آل أبي بكر الصديق وهم: عبدالله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضاً محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة.

وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده، وأدركوا النبي وأدركه أيضاً بنو أولاده: إلا أبوبكر من جهة الرجال والنساء -وقد بينت ذلك- فكلهم آمنوا بالنبي وصحبوه، فهذا بيت الصديق، فأهله أهل إيمان، ليس فيهم منافق ولا يعرف في الصحابة مثل هذا لغير بيت أبي بكر رضي الله عنهم.

وكان يقال: للإيمان بيوت وللنفاق بيوت؛ فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين، وبني النجار من بيوت الإيمان من الأنصار.







  إسلامه:

كان إسلام أبي بكر رضي الله عنه وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطر السليمة ويلبي رغباتها، ويتفق مع العقول الراجحة، والبصائر النافذة، فقد كان بحكم عمله التجاري كثير الأسفار، قَطَعَ الفيافي، والصحاري، والمدن والقرى في الجزيرة العربية وتنقل من شمالها إلى جنوبها، وشرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقاً، بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية، وكان كثير الإنصات لكلمات النفر الذين حملوا راية التوحيد، راية البحث عن الدين القويم، فقد حدّث عن نفسه فقال: كنت جالساً بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نُفيْل قاعداً، فمرّ ابن أبي الصَّلْتِ، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: وهل وجدت؟ قال: لا، فقال:

كل دين يوم القيامة إلا***

ما مضَى في الحنيفية بُور


أما إنّ هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم، قال: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويُبعث، قال: فخرجت أريد ورقة بن نوفل -وكان كثير النظر إلى السماء، كثير همهمة الصّدر- فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنّا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب نسباً. قلت: ياعمّ ومايقول النبي؟ قال: يقول ماقيل له؟ إلا إنّه لايظلم، ولايُظلم ولا يُظالم، فلما بُعث رسول الله آمنت به وصدّقته، وكان يسمع مايقوله أمية بن أبي الصلت:

في مثل قوله:

ألا نبي لنا منا فيخبرنا

مابعد غايتنا من رأس مجرانا

إني أعوذ بمن حج الحجيج له

والرافعون لدين الله أركانا

لقد عايش أبو بكر هذه الفترة، ببصيرة نافذة، وعقل نير، و فكر متألق، وذهن وقاد، وذكاء حاد، وتأمل رزين ملأ عليه أقطار نفسه، ولذلك حفظ الكثير من هذه الأشعار، ومن تلك الأخبار، فعندما سأل الرسول الكريم أصحابه يوماً -وفيهم أبو بكر الصديق قائلاً: من منكم يحفظ كلام -قيس بن ساعدة- في سوق عكاظ؟ فسكت الصحابة، ونطق الصديق قائلاً: إني أحفظها يارسول الله،

كنت حاضراً يومها في سوق عكاظ، ومن فوق جمله الأورق وقف قيس- يقول: أيها الناس: اسمعوا وَعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا إن من عاش مات ومن مات فات، وكل ماهو آتٍ، آت، إن في السماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسماء ذات أبراج!!

يُقسم قيس، إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. مالي أرى الناس يذهبون، ولايرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا ثم أنشد قائلاً:

في الذاهبين الأولين *** من القرون لنا بصــــائر

لمــــــا رأيت موارداً *** للموت ليس لهــا مصائر

ورأيت قومي نحوها *** يسعى الأكابر والأصاغر

أيقنت أني لامحالـــة*** حيث صــار القوم صائر



وبهذا الترتيب الممتاز، وبهذه الذاكرة الحديدية، وهي ذاكرة استوعبت هذه المعاني يقص الصديق ماقاله قس بن ساعدة على رسول الله وأصحابه.

وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصّها على بحيرا الراهب، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر ذلك أبو بكر في نفسه.

لقد كان إسلام الصديق بعد بحث وتنقيب وانتظار وقد ساعده على تلبية دعوة الإسلام معرفته العميقة وصلته القوية بالنبي في الجاهلية، فعندما نزل الوحي على النبي أخذ يدعو الأفراد إلى الله وقع أول اختياره على الصديق رضي الله عنه، فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبي بصدقه وأمانته، وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس فكيف يكذب على الله؟

فعندما فاتحه رسول الله بدعوة الله وقال له: .. إني رسول الله ونبيه، بعثني إلى الله وحده لاشريك له، ولاتعبد غيره، والموالاة على طاعته، فأسلم الصديق ولم يتلعثم وتقدم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته فقام بما تعهد ولهذا قال رسول الله في حقه: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين.

وبذلك كان الصديق رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال الأحرار، قال إبراهيم النخعي، وحسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر: أول من أسلم أبو بكر. وقال يوسف بن يعقوب الماجشون: أدركت أبي ومشيختنا: محمد بن المنكدر، وربيعة بن عبدالرحمن، وصالح بن كيسان وسعد بن ابراهيم وعثمان بن محمد الأخنس وهم لايشكون أن أول القوم إسلاماً أبو بكر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول من صلى أبو بكر ثم تمثل بأبيات حسان:

إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة

فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها

إلا النبي وأوفاها بما حملا

الثاني التالي المحمود مشهده

وأول الناس صدق الرسلا

وثاني أثنين في الغار المنيف وقد

طاف العدو به إذ صعد الجبلا

وعاش حميداً لأمر الله متبعاً

بهدى صاحبه الماضي وما انتقلا

وكان حب رسول الله قد علموا

من البرية لم يعدل به رجلا

هذا وقد ناقش العلماء قضية إسلام الصديق، وهل كان رضي الله عنه أول من أسلم، فمنهم من جزم بذلك، ومنهم من جزم بأن علياً أول من أسلم، ومنهم من جعل زيد بن حارثة أول من أسلم، وقد جمع الامام ابن كثير رحمه الله بين الأقوال جمعاً طيباً فقال: (والجمع بين الأقوال كلها : أن خديجة أول من أسلم من النساء

-وقيل الرجال أيضاً- وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب -فإنه كان صغيراً دون البلوغ على المشهور- وهؤلاء كانوا آنذاك أهل بيته وأول من أسلم من الرجال الأحرار أبوبكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من اسلام من تقدم ذكرهم إذ كان صدراً معظماً، ورئيساً في قريش مكرماً، وصاحب المال وداعية الى الاسلام وكان محبباً متآلفاً يبذل المال في طاعة الله ورسوله) ثم قال: (وقد أجاب أبو حنيفة بالجمع بين هذه الأقوال فإن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبوبكر، ومن النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة ومن الغلمان علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

وبإسلام أبي بكر عم السرور قلب النبي حيث تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فلما فرغ من كلامه -أي النبي - أسلم أبوبكر فانطلق رسول الله من عنده، ومابين الأخشبين أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر. لقد كان ابوبكر كنزاً من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافاً، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كافٍ لإلفة القوم وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: أرحم أمتي بأمتي ابوبكر، وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصديق بأنه أ علمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها، ومافيه من خير وشر، فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علماً لاتجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائماً، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته، وطبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قصاده، ولطيبته وحسن خلقه تجد عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه، كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيماً، ولذلك عندما تحرك في دعوته للاسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق.

  دعوته:

أسلم الصديق وحمل الدعوة مع رسول الله، وتعلم من رسول الله أن الاسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن الايمان لايكمل حتى يهب المسلم نفسه ومايملك لله رب العالمين، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأنعام، الآيتان: 162،163) وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة، وكثير البركة اينما تحرك أثر وحقق مكاسب عظيمة للاسلام، وقد كان نموذجاً حياً في تطبيقه لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل، الآية: 125).

كان تحرك الصديق في الدعوة الى الله يوضح صورة من صور الايمان بهذا الدين والاستجابة لله ورسوله صورة المؤمن الذي لايقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ماآمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ماتخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسه للاسلام الى أن توفاه الله عز وجل لم يفتر أو يضعف أويمّل أو يعجز.

كانت أول ثمار الصديق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق في الاسلام وهم: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مضعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبدالرحمن بن عوف، وأبوسلمة بن عبدالأسد، والأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم، وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى فأسلموا بين يدى رسول الله، فكانوا الدعامات الاولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله وبهم أعزه الله و أيده وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، رجالاً ونساءً، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية الى الاسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد والإثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الاسلام.

وإهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبدالله وزوجته أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة، لقد كانت الصفات الحميدة والخلال العظيمة والأخلاق الكريمة التي تجسدت في شخصية الصديق عاملاً مؤثراً في الناس عند دعوتهم للاسلام، فقد كان رصيده الخلقي ضخماً في قومه وكبيراً في عشيرته، فقد كان رجلاً، مؤلفاً لقومه، محبباً لهم، سهلاً، أنسب قريش لقريش بل كان فرد زمانه في هذا الفن، وكان رئيساً مكرماً سخياً يبذل المال، وكانت له بمكة ضيافات لايفعلها أحد، وكان رجلاً بليغاً.

إن هذه الأخلاق والصفات الحميدة لابد منها للدعاة إلى الله وإلا أصبحت دعوتهم للناس صيحة في واد، ونفخة في رماد، وسيرة الصديق وهي تفسر لنا فهمه للإسلام وكيف عاش به في حياته حريٌّ بالدعاة أن يتأسوا بها في دعوة الأفراد إلى الله تعالى.

ابتلاؤه:

إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام وتحملوا رضوان الله عليهم من البلاء ماتنوء به الرواسي الشامخات وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ماشاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فلقد أوذي أبو بكر وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وحمل الى بيته في ثوبه وهو مابين الحياة والموت، فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لمّا اجتمع أصحاب النبي وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً الحّ أبو بكر على رسول الله في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنَّا قليل. فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله، وتفرق المسلمين في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله جالس، فكان أوّل خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تميم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحَمَلت بنو تميم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولايشكون في موته، ثم رجعت بنو تميم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: مافعل رسول الله ؟ فمسّوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: مافعل رسول الله ؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر سألك عن محمد بن عبدالله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولامحمد بن عبدالله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دَنِفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر إنني لأرجوا أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله ؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلاشيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله ، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله ، فقال: فأكب عليه رسول الله فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقّ له رسول الله رقة شديدة فقال أبو بكر : بأبي وأمي يارسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وأدع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله ودعاها إلى الله فأسلمت.

إن هذا الحدث العظيم في طياته دروس وعبر لكل مسلم حريص على الاقتداء بهؤلاء الصحب الكرام ونحاول أن نستخرج بعض هذه الدروس التي منها:

1-حرص الصديق على إعلان الإسلام واظهاره أمام الكفار وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته وقد تحمل الأذى العظيم حتى أن قومه كانوا لايشكون في موته، لقد أشرب قلبه حب الله ورسوله أكثر من نفسه، ولم يعد يهمه -بعد إسلامه- إلا أن تعلوا راية التوحيد، ويرتفع النداء لا إله إلا الله محمد رسول الله في أرجاء مكة حتى لو كان الثمن حياته، وكاد أبو بكر فعلاً أن يدفع حياته ثمناً لعقيدته وإسلامه.

2-إصرار أبي بكر على الظهور بدعوة الإسلام وسط الطغيان الجاهلي، رغبة في إعلام الناس بذلك الدين الذي خالطت بشاشته القلوب، رغم علمه بالأذى الذي قد يتعرض له وصحبه وماكان ذلك إلا لأنه قد خرج من حظ نفسه.

3-حب الله ورسوله تغلغل في قلب أبي بكر على حبه لنفسه، بدليل أنه رغم ما ألم به، كان أول ما سأل عنه: مافعل رسول الله، قبل أن يطعم أو يشرب، وأقسم أنه لن يفعل حتى يأتي رسول الله ، وهكذا يجب أن يكون حب الله ورسوله عند كل مسلم أحب إليه مما سواهما حتى لو كلفه ذ لك نفسه وماله.

4-إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر.

5-تظهر مواقف رائعة لأم جميل بنت الخطاب، توضح لنا كيف تربت على حُبَّ الدعوة والحرص عليها، وعلى الحركة لهذا الدين، فحينما سألتها أم أبي بكر عن رسول الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبدالله، فهذا تصرف حذر سليم، لأن أم الخير لم تكن ساعتئذ مسلمة وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولاتود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول مخافة أن تكون عيناً لقريش، وفي نفس الوقت حرصت أم جميل أن تطمئن على سلامة الصديق ولذلك عرضت على أم الخير أن تصحبها إلى ابنها وعندما وصلت للصديق كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب منها أي معلومة عن مكان رسول الله وأبلغت الصديق بأن رسول الله سالم صالح، ويتجلى الموقف الحذر من الجاهلية التي تفتن الناس عن دينهم في خروج الثلاثة عندما: هدأت الرجل وسكت الناس.

6-يظهر بر الصديق بأمه وحرصه على هدايتها في قوله لرسول الله :هذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار. إنه الخوف من عذاب الله والرغبة في رضاه وجنته، ولقد دعا رسول الله لأم أبي بكر بالهداية فاستجاب الله له، وأسلمت أم أبي بكر وأصبحت من ضمن الجماعة المؤمنة المباركة التي تسعى لنشر دين الله تعالى، ونلمس رحمة الله بعباده ونلحظ من خلال الحدث قانون المنحة بعد المحنة.

7-إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله أبا بكر الصديق نظراً لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه فينبري الصديق مدافعاً عنه وفادياً إياه بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم، هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان.


وهاجر الصديق مع الحبيب

اشتدت قريش في أذى المسلمين، والنيل منهم فمنهم من هاجر إلى الحبشة مرة أو مرتين فراراً بدينه... ثم كانت الهجرة إلى المدينة ومن المعلوم أن أبا بكر استأذن النبي ، في الهجرة فقال له:لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً فكان أبوبكر يطمع أن يكون في صحبة النبي ، وهذه السيدة عائشة رضي الله عنها تحدثنا عن هجرة رسول الله ، وأبيها حيث قالت: كان لا يخطئ رسول الله ، أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله ، في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله ، بالهاجرة ، في ساعة كان لا يأتي فيها قالت: فلما رآه أبوبكر، قال: ما جاء رسول الله ، هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبوبكر عن سريره فجلس رسول الله ،، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله ، أخرج عني من عندك. فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي! فقال: إنه قد أذن بي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبوبكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة. قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحد يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا فاستأجرا عبدالله بن أرقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً -يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.

وجاء في رواية البخاري عن عائشة في حديث طويل تفاصيل مهمة وفي ذلك الحديث :...... قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوساً في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله ، متقنعاً ، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال رسول الله ، لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبوبكر: إنما هم أهلك. فقال: فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبوبكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله قال رسول الله : نعم، قال ابوبكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحد راحلتي هاتين، قال رسول الله ،: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، ووضعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله ، وأبوبكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف ، لقن ، فيدلجمن عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادانبه إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما حيث تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل -وهو لبن منحهما ورضيفهما ينعقبها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله ، وأبوبكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد ابن عدي -هادياً خريتا- والخريت الماهر- قد غمس حلفاًفي آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.

لم يعلم بخروج رسول الله ، أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبوبكر الصديق، وآل أبي بكر، وجاء وقت الميعاد بين رسول الله ، أبي بكر ، فخرجا من خوخة ، لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لاتتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبدالله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال ، وقد دعا النبي ، عند خروجه من مكة الى المدينة ، ووقف عند خروجه بالحزورة في سوق مكة وقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله الى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت.

ثم أنطلق رسول الله وأبوبكر والمشركون يحاولون أن يقتفوا آثارهم حتى بلغوا الجبل -جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرآوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، وهذه من جنود الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}سورة المدثر، الآية:31 .

وبالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله ، فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً، وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها ، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}سورة الاسراء، الآية:80.

وفي هذه الآية الكريمة دعاء يُعلّمه الله عز وجل لنبيه ، ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها ومابين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته بمناسبة ماحاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفترى على الله غيره، وللصدق كذلك ظلاله: ظلال الثبات، والاطمئنان والنظافة الاخلاص {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} قوة وهيبة استعلى بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة {مِنْ لَدُنْك} تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء الى حماه.

وصاحب الدعوة لايمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، لايمكن أن يستظل بحاكم أو ذى جاه فينصره ويمتعه مالم يكن أتجاهه قبل ذلك الى الله والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لاتفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه.

وعندما أحاط المشركون بالغار، أصبح منهم رأي العين طمأن الرسول ، الصديق بمعية الله لهما: فعن ابي بكر الصديق قال: قلت للنبي ، وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: ماظنك ياأبابكر باثنين الله ثالثهما ؟

وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}سورة التوبة، الآية:40.

وبعد ثلاث ليال من دخول النبي ، في الغار خرج رسول الله ، وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب، ويئس المشركون من الوصول الى رسول الله، وقد قلنا أن رسول الله ، وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبدالله بن أريقط وكان مشركاً وقد أمِناهُ فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما وقد جاءها فعلاً في الموعد المحدد وسلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش ، وفي أثناء الطريق الى المدينة مرّ النبي ، بأم معبد ، في قديد ، حيث مساكن خزاعة، وهي أخت حبيش بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثر:وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضاً.

وقد أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي ، حياً أو ميتاً فله مائة ناقة وانتشر هذا الخبر عند قبائل العرب الذين في ضواحي مكة وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله ، فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لايغلبها غالب، جعله يرجع مدافعاً عن رسول الله ، بعد أن كان جاهداً عليه.

ولما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله ، من مكة، كانوا يفدون كل غداة الى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ماأطالوا انتظارهم فلما أووا الى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطممن آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر رسول الله ،، وأصحابه مبيضين ، يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته، يامعشر العرب هذا جدكم ، الذي تنتظرون، فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا رسول الله ، بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عوف، وذلك يوم الخميس الأثنينمن شهر ربيع الأول ، فقام أبابكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله ، عند ذلك.

كان يوم وصول الرسول ، وأبي بكر الى المدينة يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقاً يوم عيد، لأنه اليوم الذي انتقل فيه الاسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة الى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها الى سائر بقائع الأرض لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم الله به، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله وصحابته المهاجرين ثم لنصرة الاسلام كما أصبحت موطناً للنظام الاسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج ويقولون يارسول الله يامحمد يارسول الله ، وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الانسانية سار رسول الله ، حتى نزل في دار أبي أيوب الانصاري، ونزل الصديق على خارجة بن زيد الخزرجي الأنصاري.

وبدأت رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله ، للوصول للمستقبل الباهر للأمة والدولة الاسلامية التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة على أسس من الإيمان والتقوى والإحسان والعدل بعد أن تغلبت على اقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما الفرس والروم ، وكان الصديق  الساعد الأيمن لرسول الله ، منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته ،، وكان ابوبكر ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة: حكمة وإيماناً، يقيناً وعزيمة، تقوى وإخلاصاً، فإذا هذه الصحبة تثمر: صلاحاً وصدِّيقية، ذكراً ويقظة، حُباً وصفاء، عزيمة وتصميماً، إخلاصاً وفهماً، فوقف مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله ،، في سقيفة بني ساعدة وغيرها من المواقف وبعث جيش أسامة وحروب الردة، فأصلح مافسد، وبنى ماهُدم، وجمع ماتفرق، وقوّم ماانحرف ، إن حداثة هجرة الصديق مع رسول الله فيها دروس وعبر وفوائد منها:

أولاً: قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}سورة التوبة، الآية40 .

ففي هذه الآية الكريمة دلالة على أفضلية الصديق من سبعة أوجه ففي الآية الكريمة من فضائل أبي بكر:

1- أن الكفار أخرجوه:

الكفار أخرجوا الرسولثاني أثنينفلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.

2- أنه صاحبه الوحيد:

الذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هوأبوبكر، وكان ثاني أثنين الله ثالثهما. قوله {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} ففي المواضع التي لايكون مع النبي ، من أكابر الصحابة إلا و احد يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبوبكر، ومثل خروجه الى قبائل العرب يدعوهم الى الاسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبوبكر، وهذا اختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي.

3- أنه صاحبه في الغار:

الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس، عن أبي بكر الصديق ، قال: نظرت الى أقدام المشركين على رؤسنا ونحن في الغار، فقلت: يارسول الله لو أن أحدهم نظر الى قدميه لأبصرنا. فقال: ياأبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما . وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه.

4- أنه صاحبه المطلق:

قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} لايختص بمصحابته في الغار، بل هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصحبة كما لم يشركه فيه غيره - فصار مختصاً بالأكملية من الصحبة، وهذا مما لانزاع فيه بين أهل العلم باحوال النبي ، ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره.

5- أنه المشفق عليه:

قوله {لا تَحْزَنْ} يدل على أن صاحبه كان مشفقاً عليه محباً له ناصراً له حيث حزن، وإنما بحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وكان حزنه على النبي ، لئلا يقتل ويذهب الاسلام، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي امامه تارة، ووراءه تارة، فسأله النبي ، عن ذلك، فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك ، وفي رواية أحمد في كتاب فضائل الصحابة: ...فجعل أبوبكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي ، مالك؟ قال: يارسول الله أخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم، قال: فلما انتهينا الى الغار قال أبوبكر: يارسول الله كما أنت حتى أيمه...فلما رأى أبوبكر حجراً في الغار فألقمها قدمه، وقال يارسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي . فلم يكن يرضى بمساواة النبي؛ بل كان لايرضى بأن يقتل رسول الله ، وهو يعيش؛ بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله. وهذا واجب على كل مؤمن، والصديق أقوم المؤمنين بذلك.

6- المشارك له في معية الاختصاص:

قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} صريح في مشاركة الصديق للنبي ، في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق... وهي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم - فيكون النبي ، قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك ياأبابكر، ويعيننا عليهم، نصر إكرام ومحبة كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}سورة غافر، الآية 51 . وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالايمان المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله.

وقال الدكتور عبدالكريم زيدان عن المعية في هذه الآية الكريمة وهذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} لأن المعية هنا لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، كوصف التقوى والإحسان بل هي خاصة برسوله وصاحبه مكفولة هذه المعية بالتأييد بالآيات وخوارق العادات.

7- أنه صاحبه في حال إنزال السكينة والنصر:

قال تعالى {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا...}سورة التوبة، الآية 40 فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد فلأن يكون صاحبه في حضور النصر والتأييد أولى وأحرى، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها. وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أنما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس لصاحبه فيها أعظم مما لسائر الناس. وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه.



 الصدِّيق في ميادين الجهاد


ذكر أهل العلم بالتواريخ والسير أن أبابكر شهد مع النبي بدراً والمشاهد كلها، ولم يفته منها مشهد، وثبت مع رسول الله يوم أحد حين انهزم الناس ودفع إليه النبي رايته العظمى يوم تبوك وكانت سوداء.

وقال ابن كثير: ولم يختلف أهل السير في أن أبابكر الصديق لم يتخلف عن رسول الله في مشهد من مشاهده كلها .

وقال الزمخشري: إنه -يعني أبابكر - كان مضافاً لرسول الله الى الأبد، فإنه صحبه صغيراً وأنفق ماله كبيراً، وحمله الى المدينة براحلته وزاده، ولم يزل ينفق عليه ماله في حياته، وزوجه ابنته، ولم يزل ملازماً له سفراً وحضراً ، فلما توفي دفنه في حجرة عائشة أحب النساء إليه .

وعن سلمة بن الأكوع: غزوت مع النبي سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات مرة علينا أبوبكر ومرة علينا أسامة .

ومن خلال هذا المبحث سنحاول أن نتتبع حياة الصديق الجهادية مع النبي لنرى كيف جاهد الصديق بنفسه وماله ورأيه في نصرة دين الله تعالى.

  أبوبكر في بدر الكبرى:

شارك الصديق في غزوة بدر وكانت في العام الثاني من الهجرة وكانت له فيها مواقف مشهورة من أهمها:

1- مشورة الحرب:

لما بلغ النبي نجاة القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي استشار رسول الله اصحابه في الأمر ، فقام أبوبكر فقال وأحسن ثم قام عمر فقال وأحسن .

2- دوره في الاستطلاع مع النبي :

قام النبي ومعه أبوبكر يستكشف أحوال جيش المشركين وبينما هما يتجولان في تلك المنطقة لقيا شيخاً من العرب، فسأله رسول الله عن جيش قريش، وعن محمد وأصحابه، ومابلغه من أخبارهم: فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني مما أنتما. فقال له رسول الله : إذا أخبرتنا أخبرناك فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: نعم. فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً واصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به جيش المسلمين- وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً- ثم قال الشيخ: لقد اخبرتكما عما أردتما، فأخبراني: ممن أنتما؟ فقال رسول الله : نحن من ماء. ثم انصرف النبي وأبوبكر عن الشيخ، وبقي هذا الشيخ يقول: مامن ماء؟ أمن ماء العراق .

وفي هذا الموقف يتضح قرب الصديق من النبي وقد تعلم أبوبكر من رسول الله دروساً كثيرة.

3- في حراسة النبي في عريشه:

عندما رتب الصفوف للقتال رجع الى مقر القيادة وكان عبارة عن عريش على تلِّ مشرف على ساحة القتال وكان معه فيه أبوبكر وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله ، وقد تحدث علي بن أبي طالب عن هذا الموقف فقال: ياأيها الناس من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت ياأمير المؤمنين، فقال: أما إني مابارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبوبكر: إنا جعلنا لرسول الله عريشاً فقلنا من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله مادنا منه أحد إلا أبابكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله لا يهوي إليه أحد من المشركين إلا أهوى إليه فهذا اشجع الناس.

4- الصديق يتلقى البشارة بالنصر، ويقاتل بجانب رسول الله :

بعد الشروع في الأخذ بالأسباب اتجه رسول الله الى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه: اللهم أنجز لي ماوعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام فلا تعبد في الأرض أبداً ومازال يدعو ويستغيث حتى سقط رداوه، فأخذه أبوبكر ورده على منكبيه وهو يقول: يارسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه منجر لك ماوعدك ، وأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وفي رواية ابن عباس قال: قال النبي يوم بدر: الله انشدك عهد ووعدك، الله إن شئت لم تعبد فأخذ ابوبكر بيده، فقال: حسبك الله، فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ، وقد خفق النبي خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: ابشر ياأبابكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع يعني الغبار، قال: ثم خرج رسول الله الى الناس فحرضهم .

وقد تعلم الصديق من هذا الموقف درساً ربانياً مهماً في التجرد النفسي وحظها والخلوص واللجوء لله وحده والسجود والجثي بين يدي الله سبحانه لكي ينزل نصره وبقى هذا المشهد راسخاً في ذاكرة الصديق وقلبه ووجدانه يقتدي برسول الله في تنفيذه في مثل هذه الساعات، وفي مثل هذه المواطن ويبقى هذا المشهد درساً لكل قائد أو حاكم أو زعيم أو فرد يريد أن يقتدي بالنبي وصحابته الكرام.

ولما اشتد أوار المعركة وحمى وطيسها نزل رسول الله وحرض على القتال والناس على مصافهم يذكرون الله تعالى، وقد قاتل بنفسه قتالاً شديد وكان بجانبه الصديق ، وقد ظهرت منه شجاعة وبسالة منقطعة النظير، وكان على استعداد لمقاتلة كل كافر عنيد ولو كان أبنه، وقد شارك ابنه عبدالرحمن في هذه المعركة مع المشركين، وكان من أشجع الشجعان بين العرب، ومن أنفذ الرماة سهماً في قريش، فلما أسلم قال لأبيه: لقد أهدفت لي أي ظهرت أمامي كهدف واضح يوم بدر، فملت عنك ولم اقتلك. فقال له أبوبكر: ولكنك لو أهدفت لي لم أمِلْ عنك .

5- الصديق والأسرى:

قال ابن عباس: ...فلما أسروا الأسارى قال رسول الله لأبي بكر وعمر: ماترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبوبكر: يانبي الله هم بنو العم والعشيرة: أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم الى الاسلام. فقال رسول الله : ماترى يابن الخطاب؟ قال: لا والله يارسول، ماأرى الذي يراه أبوبكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان نسيباً لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوى رسول الله الى ماقال أبوبكر ولم يهو ماقلت: فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله وأبوبكر قاعدين يبكيان، قلت يارسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله : أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة -شجرة قريبة من النبي - وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى.....} الى قوله {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا.....} فأحل الله لهم الغنيمة وفي رواية عن عبدالله بن مسعود قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله : ماتقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال ابوبكر: يارسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يارسول الله أخرجوك وكذبوك قربهم فاضرب أعناقهم. وقال عبدالله بن رواحة: يارسول الله انظر وادياً كثير الحطب، فادخلهم فيه ثم اضرم عليهم ناراً. فقال العباس: قطعت رحمك، فدخل رسول الله ولم يرد عليهم شيئاً. فقال ناس: يأخذ بقول ابي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبدالله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله فقال: إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك ياأبابكر كمثل عيسى عليه السلام إذ قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} سورة المائدة، الآية:118 وإن مثلك ياعمر كمثل نوح إذ قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} سورة نوح، الآية 26 .

وإن مثلك كمثل موسى إذ قال: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} سورة يونس، الآية 88 . كان النبي إذ استشار أصحابه أول من يتكلم أبوبكر في الشورى، وربما تلكم غيره، وربما لمن يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره ابتع رأيه دون رأي من يخالفه .

  في أحد وحمراء الأسد:

في يوم أحد تلقى المسلمون درساً صعباً، فقد تفرقوا من حول النبي ، وتبعثر الصحابة في أرجاء الميدان، وشاع أن الرسول قتل وكان رد الفعل على الصحابة متبايناً، وكان الميدان فسيحاً وكل مشغول بنفسه، وشق الصديق الصفوف وكان اول من وصل الى رسول الله ، واجتمع الى رسول الله أبوبكر، وأبوعبيدة بن الجراح، وعلي، وطلحة والزبير، وعمر بن الخطاب والحارث بن الصمة، وأبودجانة، وسعد بن ابي وقاص، وغيرهم.... رضي الله عنهم وقصدوا مع رسول الله الشعب من جبل أحد في محاولة لاسترداد قوتهم المادية والمعنوية .

وكان الصديق إذا ذكر أحد قال: ذلك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد، فرأيت رجلاً يقاتل في سبيل الله دونه، قال قلت: كن طلحة حيث فاتني مافاتني، وكان بيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب الى رسول الله منه، وهو يخطلف المشي خطفاً لا أخطفه فإذا هو أبوعبيدة، فانتهينا الى رسول الله وقد كسرت رباعيته وشج وجهه، وقد دخل في وجنتيه حلقتان من حلق المغفر، قال رسول الله : عليكما صاحبكما: يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت الى قوله، قال: ذهبت لأنزع من وجهه، فقال أبوعبيدة أقسم عليك بحقي لما تركتني فتركته فكره تناولها فيؤذي رسول الله فأرزم عليه بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة فكان أبوعبيدة من أحسن الناس هتماً...فأصلحنا من شأن رسول الله ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية، وضربة، وإذا قد قطعت إصبعه فأصلحنا من شأنه .

وتتضح منزلة الصديق في هذه الغزوة من موقف أبي سفيان عندما سأل وقال: أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات. فنهاهم النبي أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم أبن أبي قحافة؟ ثلاث مرات. ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاث مرات ثم رجع الى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا ... فهذا يدل على ظن أبي سفيان زعيم المشركين حينئذ بأن أعمدة الاسلام، وأساسه رسول الله وابوبكر وعمر .

وعندما حاول المشركون أن يقبضوا على المسلمين ويستأصلوا شفأتهم، كان التخطيط النبوي الكريم قد سبقهم وأبطل كيدهم، وأمر رسول الله المسلمين مع مابهم من جراحات وقرح شديد للخروج في إثر المشركين، فأستجابوا لله ولرسوله مع مابهم من البلاء وانطلقوا فعن عائشة رضي الله عنها قالت لعروة بن الزبير في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} سورة آل عمران، الآية: 172 : ياأبن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبوبكر لما أصاب رسول الله ماأصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً: كان فيهم أبوبكر والزبير .

  في غزوة بني النضير، وبني المصطلق وفي الخندق وبني قريظة:

أ- خرج النبي الى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية من بني عامر على وجه الخطأ لأن عمراً لم يعلم بالعهد الذي بين بني عامر وبين النبي ، وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فلما آتاهم النبي قالوا: نعم ياأبا القاسم نعينك على ماأحببت، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله الى جنب جدار من بيوتهم قاعد. قالوا: فمن يعلوا على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله في نفر من أصحابه فيهم أبوبكر وعمر وعلي فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج الى المدينة، فلما استلبت النبي أصحابه قالوا في طلبه فرأوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه فقال: رأيته داخلاً المدينة. فأقبل أصحاب النبي حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به.

فبعث النبي محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق يحرضونهم على المقام ويعدونهم بالنصر، فقويت نفوسهم وحمى حيي بن أخطب وبعثوا الى رسول الله أنه لايخرجون، ونابذوه بنقض العهد فعند ذلك أمر رسول الله الناس بالخروج إليهم فحاصروهم خمس عشرة ليلة فتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله بقطع النخيل والتحريق، ثم أجلاهم على أن لهم ماحملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة فنزلت سورة الحشر .

ب-بني المصطلق:

أراد بنو المصطلق أن يغزو المدينة، فخرج لهم رسول الله في أصحابه فلما انتهى إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ويقال إلى عمار بن ياسر وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة. ثم أمر عمر بن الخطاب فنادى في الناس أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم فأبوا، فتراموا بالنبل ثم أمر رسول الله المسلمين فحملوا حملة رجل واحد فما أفلت منهم رجل واحد، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم، ولم يقتل من المسلمين سوى رجل واحد .

جـ-في الخندق وبني قريظة:

كان الصديق في الغزوتين مرافقاً للنبي ، وكان يوم الخندق يحمل التراب في ثيابه وساهم مع الصحابة للإسراع في انجاز حفر الخندق في زمن قياسي مما جعل فكرة الخندق تصيب هدفها في مواجهة المشركين .

  في الحديبية:

خرج رسول الله في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد زيارة البيت الحرام في كوكبة من الصحابة عددها أربع عشرة مائة وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائر لتعظيم بيت الله الحرام فبعث النبي عيناً له من خزاعة فعاد بالخبر أن أهل مكة جمعوا جموعهم لصده عن الكعبة فقال: أشيروا عليَّ أيها الناس، فقال أبو بكر  يارسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لاتريد حربه أو قتل أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال امضوا على اسم الله، وقد ثارت ثائرة قريش وحلفوا أن لايدخل الرسول مكة عنوة ثم قامت المفاوضات بين أهل مكة ورسول الله وقد عزم النبي على إجابة أهل مكة على طلبهم إن أرادوا شيئاً فيه صلة رحم .

أ-في المفاوضات:

جاءت وفود قريش لمفاوضة النبي وكان أول من أتى بديل بن ورقاء من خزاعة فلما علم بمقصد النبي والمسلمين رجع إلى أهل مكة ثم جاء مكرز بن حفص ثم بالحليس بن علقمة ثم عروة بن مسعود الثقفي فدار هذا الحوار بين النبي وعروة بن مسعود الثقفي واشترك في هذا الحوار أبو بكر  وبعض أصحابه .

قال عروة: يامحمد أجمعت أوباش الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل - أي خرجت رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً- قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة وايم الله لكأني بهؤلاء يقصد أصحاب النبي قد انكشفوا عنك!!

فقال أبو بكر: أمصص بظر اللات -وهي صنم ثقيف- أنحن نفرُّعنه وندعه؟ فقال من ذا؟ قالوا أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. وكان الصديق قد أحسن إليه قبل ذلك، فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة ولهذا قال من قال من العلماء: إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة، وليس من الفحش المنهي عنه .

لقد حاول عروة بن مسعود أن يشن حرباً نفسية على المسلمين حتى يهزمهم معنوياً، ولذلك لوح بقوة المسلمين العسكرية، معتمداً على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لامحالة وحاول أن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده عندما قال النبي أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، وكان رد الصديق صارماً ومؤثراً في معنويات عروة ونفسيته، فقد كان موقف الصديق في غاية العزة الإيمانية التي قال الله فيها {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} آل عمران، آية:139 . 


 موقفه من الصلح:

ولما توصل المشركون مع رسول الله إلى الصلح بقيادة سهيل بن عمرو أصغى الصديق إلى ماوافق عليه رسول الله من طلب المشركين رغم ماقد يظهر للمرء أن في هذا الصلح بعض التجاوز أو الإجحاف بالمسلمين وسار على هدي النبي ليقينه بأن النبي لاينطق عن الهوى، وأنه فعل ذلك لشيء أطلعه الله عليه .

وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلناً معارضته لهذه الاتفاقية وقال لرسول الله : ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه ، وفي رواية: أنا عبدالله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني ، قلت أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال بلى، فأخبرتك أنا نأتيه هذا العام؟ قلت لا، قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر: أليس برسول الله: قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر- ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة - إلزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيّعه الله ، وكان جواب الصديق مثل جواب رسول الله ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي ، فكان أبو بكر  أكمل موافقة لله وللنبي من عمر مع أن عمر مُحدِّث، ولكن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث، لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل مايقوله ويفعله .

وقد تحدث الصديق فيما بعد عن هذا الفتح العظيم الذي تم في الحديبية فقال: ماكان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذ قَصُرَ رأيهم عما كان بين محمد وربّه، والعباد يَعْجَلون،والله لايعجل كعجلة العباد حتى يبلغ الأمور ما أراد، لقد نظرت إلى سُهيل بن عمرو في حَجِّة الوداع قائماً عند المنحر يُقّرب إلى رسول الله بَدَنةً، ورسول الله ينحرها بيده، ودعا الحلاَّق فحلق رأسه، وانظر إلى سهيل يلتقط من شعره، وأراه يضعه على عينه، وأذكر إباءه أن يُقِرَّ يوم الحديبية بأن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم ويأبى الله أن يكتب: محمد رسول الله فحمدت الله الذي هداه للإسلام .

لقد كان الصديق أسَدَّ الصحابة رأياً وأكملهم عقلاً .

  في غزوة خيبر، وسرية نجد وبني فزازة:

ضرب رسول الله حصاراً على خيبر واستعد لقتالهم، فكان أول قائد يرسله أبا بكر إلى بعض حصون خيبر فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح، وقد جهد، ثم بعث عمر فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح، ثم قال لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، فكان علي بن أبي طالب، وأشار بعض أصحاب النبي بقطع النخيل حتى يثخن في اليهود ورضي النبي بذلك، فأسرع المسلمون في قطعة، فذهب الصديق إلى النبي وأشار عليه بعدم قطع النخيل لما في ذلك من الخسارة للمسلمين سواء فتحت خيبر عنوة أو صلحاً فقبل النبي مشورة الصديق ونادى بالمسلمين بالكف عن قطع النخيل فرفعوا أيديهم .

ب-في نجد:

أخرج ابن سعد عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: بعث رسول الله أبا بكر إلى نجد وأمره علينا فبيتنا ناساً من هوازن فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات، وكان شعارنا أمِتْ أمِتْ .

جـ-في بني فزارة:

روى الإمام أحمد من طريق إياس بن سلمة عن أبيه حدثني أبي قال: خرجنا مع أبي بكر بن أبي قحافة وأمره النبي علينا، فغزونا بني فزازة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة فقتلنا على الماء من مر قبلنا قال سلمة ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل. قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء وفيهم امرأة عليها قشع من أدم ومعها ابنة لها من أحسن العرب قال فنفلني أبو بكر، فما كشفت لها ثوباً حتى قدمت المدينة ثم بت فلم أكشف لها ثوباً، قال فلقيني رسول الله في السوق فقال لي: يا سلمة هب لي المرأة قال: فقلت والله يارسول الله لقد أعجبتني وماكشفت لها ثوباً، قال فسكت رسول الله، وتركني حتى إذا كان من الغد لقيني رسول الله في السوق فقال لي: ياسلمة هب لي المرأة قال: فقلت والله يارسول الله والله ماكشفت لها ثوبا وهي لك يارسول الله، قال فبعث بها رسول الله إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين ففداهم رسول الله بتلك المرأة .

  في عمرة القضاء وفي ذات السلاسل:

أ-في عمرة القضاء:

كان الصديق ضمن المسلمين الذين ذهبوا مع رسول الله ليعتمروا عمرة القضاء مكان عمرتهم التي صدهم المشركون عنها .

في سرية ذات السلاسل:

قال رافع بن عمرو الطائي: بعث رسول الله عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل ، وبعث معه في ذلك الجيش أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، وسَرَاة أصحابه، فانطلقوا حتى نزلوا جبل طَيّ، فقال عمرو: انظروا إلى رجل دليل بالطريق، فقالوا: مانعلمه إلا رافع بن عمرو، فإنه كان رَبيلاً في الجاهلية. قال رافع: فلما قضينا غَزَاتنا وانتهيت إلى المكان الذي كنا خرجنا منه، توسّمت أبا بكر ، وكانت له عباءة فدكية ، فإذا ركب خَلَّها عليه بخلال ، وإذا نزل بسطها فأتيته فقلت: ياصاحب الخِلال، إني توسمتك من بين أصحابك، فائتني بشيء إذا حفظته كنت مثلكم ولا تطوِّل عليّ فأنْسىَ. فقال: تحفظ أصابعك الخمس؟ قلت: نعم، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلوات الخمس وتؤتي زكاة مالك إن كان لك مال، وتحج البيت، وتصوم رمضان: هل حفظت؟ قلت نعم، قال: وأخرى لاتُؤمَّرَنَّ على اثنين قلت: وهل تكون الإمرة إلا فيكم أهل المَدَر . فقال: يوشك أن تفشو حتى تبلغك ومن هو دونك، إن الله عزوجل لما بعث نبيه دخل الناس في الإسلام، فمنهم من دخل لله فهداه الله، ومنهم من أكرهه السَّيف، فكلهم عُوَّاد الله وجيران الله وخَفَارةُ الله، إن الرجل إذا كان أميراً، فتظالم الناس بينهم فلم يأخذ لبعضهم من بعض انتقم الله منه، إن الرجل منكم لتؤخذ شاة جاره فيظل نَاتئ عضلته غضباً لجاره والله من وراء جاره .

ففي هذه النصيحة دروس وعبر لإبناء المسلمين يقدمها الصحابي الجليل أبو بكر الصديق الذي تربى على الإسلام وعلى يد رسول الله من أهمها:

1-أهمية العبادات: الصلاة لأنها عماد الدين، والزكاة والصوم والحج.

2-عدم طلب الإمارة ولاتكونن أميراً تماماً كما أوصى رسول الله ، أبا ذر الغفاري وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها ولذلك فإن أبا بكر الفاهم الواعي لكلام حبيبه محمد جاء في رواية: وأنه من يك أميراً فإنه أطول الناس حساباً، وأغلظهم عذاباً، ومن لايكن أميراً فإنه من أيسر الناس حساباً، وأهونهم عذاباً ، فهذا فهم الصديق لمقام الإمارة.

3-إن الله حرم الظلم على نفسه، ونهى عباده أن يتظالموا، أن يظلم بعضهم بعضا، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، كما نهى عن ظلم المؤمنين من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وهم جيران الله، وهم عواذ الله، والله أحق أن يغضب لجيرانه .

4-على عهد الصدر الأول كان أمراء الأمة خيارها، وجاء وقت فشاء أمرها الإمارة وكثرت حتى نالها من ليس لها بأهل: إن هذه الإمارة ليسيرة، وقد أوشكت أن تفشوا حتى ينالها من ليس لها بأهل .

5-وفي غزوة ذات السلاسل ظهر موقف متميز للصديق في احترام الأمراء مما يثبت أن أبا بكر كان صاحب نفس تنطوي على قوة هائلة، وقدرة متميزة في بناء الرجال، وتقديرهم واحترامهم ، فعن عبدالله بن بريدة قال: بعث رسول الله عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن لاينوروا ناراً، فغضب عمر وهم أن يأتيه، فنهاه أبو بكر، وأخبره أن الرسول لم يستعمله عليك إلا لعلمه بالحرب فهدأ عنه عمر.


أ-في فتح مكة 8هـ:


كان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ماذكره ابن اسحاق قال: حدثني الزهري عن عروة ابن الزبير عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه جميعاً قالا: في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة وقالوا نحن ندخل في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في ذلك نحو السبعة أو الثمانية عشر شهراً، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له الوتير- وهو قريب من مكة - وقالت قريش مايعلم بنا محمد، وهذا الليل ومايرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله فقدم عمرو بن سالم إلى المدينة فأنشد رسول الله قائلاً:

اللهم إني ناشد محمداً

حلف أبينا وأبيك الأتلدا

فانصر هداك الله نصراً أعتدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فقال النبي : نصرت ياعمرو بن سالم .

وتجهز النبي مع صحابته للخروج إلى مكة، وكتم الخبر، ودعا الله أن يعمي على قريش حتى تفاجأ بالجيش المسلم يفتح مكة وخافت قريش أن يعلم النبي بما حدث فخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله فقال: يامحمد، أشدد العقد، وزدنا في المدة، فقال النبي : ولذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم، فقال معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لانغير ولانبدل، فخرج من عند النبي يقصد مقابلة الصحابة عليهم الرضوان .

1-أبو بكر وأبو سفيان:

طلب أبو سفيان من أبي بكر أن يجدد العقد ويزدهم في المدة، فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله ، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. وهنا تظهر فطنة الصديق وحنكته السياسية ثم يظهر الإيمان القوي بالحق الذي هو عليه ويعلن أمام أبي سفيان دون خوف أنه مستعد لحرب قريش بكل مايمكن ولو وجد الذر تقاتل قريشاً لأعانها عليها .

2-بين عائشة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما:

دخل الصديق على عائشة وهي تغربل حنطة وقد أمرها النبي بأن تخفي ذلك .. فقال لها أبو بكر: يابنية لم تصنعين هذا الطعام؟ فسكتت، فقال: أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت، فقال لعله يريد بني الأصفر - أي الروم - فصمتت، فقال لعله يريد أهل نجد؟ فصمتت، فقال لعله يريد قريشاً، فصمتت، فدخل رسول الله فقال الصديق له: يارسول الله أتريد أن تخرج مخرجاً؟ قال: نعم، لعل تريد بني الأصفر؟ قال: لا، قال: أتريد أهل نجد؟ قال: لا، قال: فلعلك تريد قريشاً؟ قال: نعم. قال أبو بكر: يارسول الله أليس بينك وبينهم مدة؟ قال: ألم يبلغك ماصنعوا ببني كعب؟

وهنا سلم أبو بكر للنبي وجهز نفسه ليكون مع القائد في هذه المهمة الكبرى وذهب مع رسول الله المهاجرون والأنصار فلم يتخلف منهم أحد .

3-الصديق في دخول مكة:

لما دخل النبي مكة في عام الفتح وكان بجانبه أبو بكر رأى النساء يلطمن وجوه الخيل فابتسم إلى أبي بكر وقال: يا أبا بكر كيف قال حسان؟ فأنشد أبو بكر:

عَدِمْنَا خَيلنا إن لم تروْها

تُثير النَّقعَ مَوْعِدُها كَدَاءُ

يباريْنَ الأَسِنَّة مُصغيات

على أكتَافِها الأسلُ الظّباءُ

تظلُّ جيادُنا متمطِّرات

تلطمهُنَّ بالخُمرِ النساءُ

فقال النبي : ادخلوها من حيث قال حسان ، وقد تمَّت النعمة على الصديق في هذا الجو العظيم بإسلام أبيه أبي قحافة .

في حنين:

أخذ المسلمون يوم حنين درساً قاسياً، إذ لحقتهم هزيمة في أول المعركة جعلتهم يفرون من هول المفاجأة وكانوا كما قال الإمام الطبري: فانشمروا لايلوي أحدٌ على أحد وجعل رسول الله يقول: أين أيها الناس، هلموا إليَّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله .. يامعشر الأنصار، أنا عبدالله ورسوله.. ثم نادى عمه العباس وكان جهوري الصوت فقال له: ياعباس ناد: يامعشر الأنصار، يا أصحاب السمرة ، كان هذا هو حال المسلمين في أول المعركة، النبي وحده لم يثبت معه أحد إلا قلة، ولم تكن الفئة التي صبرت مع النبي إلا فئة من الصحابة يتقدمهم الصديق ثم نصرهم الله بعد ذلك نصراً عزيزاً مؤزراً ، وكانت هناك بعض المواقف للصديق منها:

1-فتوى الصديق بين يدي رسول الله:

قال ابو قتادة: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله فأسرعت إلى الذي يختله فرفع ليضربني وأضرب يده فقطعتها ثم أخذني فضمني ضمّاً شديداً حتى تخوفت ثم ترك فتحلل ودفعته ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ماشأن الناس؟ قال أمر الله ثم تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله: من أقام بينة على قتيل قتله، فله سلبه، فقمت لألتمس بينة قتيلي فلم أرَ أحداً يشهد لي، فجلست ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه فقال أبو بكر: كلا لايعطيه ، أصيبغ من قريش ويدع أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله ، قال: فقام رسول الله فأدّاه إليّ فاشتريت منه خرافاً ، فكان أول مال تأشَّلته في الإسلام .

إن مبادرة الصديق في الزجر والردع والفتوى واليمين على ذلك في حضرة رسول الله ، ثم يصدقه الرسول فيما قال ويحكم بقوله خصوصية شرف، لم تكن لأحد غيره ونلحظ في الخبر السابق أن أبا قتادة الأنصاري حرص على سلامة أخيه المسلم وقتل ذلك الكافر بعد جهد عظيم، كما أن موقف الصديق فيه دلالة على حرصه على إحقاق الحق والدفاع عنه ودليل على رسوخ إيمانه وعمق يقينه وتقديره لرابطة الأخوة الإسلامية وأنها بمنزلة رفيعة بالنسبة له .

2-الصديق وشعر عباس بن مرداس:

حين استقل العباس بن مرداس عطاءه من غنائم حنين قال شعراً عاتب فيه رسول الله حيث قال:

كانت نهابا تلافيتها

بكرِّي على المُهرِ في الأجْرَع

وإيقاظي القوم أن يرقدوا

إذا هجع الناس لم أهجع

فأصبح نهبي ونهب العبيد

بين عيينة والأقرع

وقد كنت في الحرب ذا تُدْراء

فلم أُعطَ شيئاً ولم أُمْنَع

إلا أفائل أعطيتها

عديد قوائمها الأربع

وما كان حصن ولاحابس

يفوقان شيخي في المجمع

وماكنت دون امرئ منهما

ومن تضع اليوم لايُرْفعِ

فقال رسول الله : اذهبوا به، فأقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رَضي، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله .

وأتى العباس رسول الله ، فقال له رسول الله : أنت القائل: فأصبح نهبي ونهبُ العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فقال ابوبكر الصديق: بين عيينة والأقرع؛ فقال رسول الله : هما واحد ، فقال أبوبكر: أشهد أنك كما قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ} سورة يس، الآية 69 .

  في الطائف:

في حصار الطائف وقعت جراحات في اصحاب النبي وشهادة، ورفع رسول الله عن أهل الطائف الحصار ورجع الى المدينة وممن استشهد من المسلمين في هذه الغزوة عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما رمي بسم فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة النبي .

وعندما قدم وفد ثقيف للمدينة ليعلنوا إسلامهم فما إن ظهر الوفد قرب المدينة حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول ، وفاز الصديق بتلك البشارة ، وبعد أن أعلنوا إسلامهم وكتب لهم رسول الله كتابهم وأراد أن يؤمّر عليهم أشار أبوبكر بعثمان بن أبي العاص بن أبي العاص -وكان أحدثهم سناً فقال الصديق: يارسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الاسلام وتعلم القرآن ، فقد كان عثمان بن أبي العاص كلما نام قومه بالهاجرة، عمد الى رسول الله فساله في الدين واستقرأه القرآن حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله نائماً عمد الى أبي بكر وكان يكتم ذلك عن أصحابه فأعجب ذلك رسول الله وعجب منه وأحبه .

وعندما علم الصديق بصاحب السهم الذي أصاب أبنه كانت له مقوله تدل على عظمة إيمانه فعن القاسم بن محمد قال: رُمِيَ عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما بسهم يوم الطائف، فانتفضت به بعد وفاة رسول الله بأربعين ليلة، فمات فقدم عليه وفد ثقيف ولم يزل ذلك السهم عنده، فأخرجه إليهم فقال: هل يعرف هذا السَّهمَ منكم أحد؟ فقال سعيد بن عبيد، أخو بني عجلان: هذا سهم أنا بَرِيْتُهُ ورشته ، عقبته ، وأنا رميت به. فقال أبوبكر فإن هذا السهم الذي قتل عبدالله بن أبي بكر، فالحمدلله الذي أكرمه بيدك، ولم يُهِنك بيده، فإنه أوسع لكما .

  في غزوة تبوك،

أ- في تبوك:

خرج رسول الله بجيش عظيم في غزوة تبوك بلغ عدده ثلاثين ألفاً وكان يريد قتال الروم بالشام، وعندما تجمع المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله ، اختار الأمراء والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، فأعطى لواءه الأعظم الى أبي بكر الصديق ، وفي هذه الغزوة ظهرت بعض المواقف للصديق منها:

1- موقفه من وفاة الصحابي عبدالله ذو البجادين رضي الله عنه:

قال عبدالله بن مسعود: قمت في جوف الليل وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار من ناحية العسكر، قال: فاتبعتها، أنظر إليها فإذا رسول الله وأبوبكر وعمر، وإذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حضرته، وأبوبكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: أدنيا الى أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه قال: اللهم إني أمسيت راضياَ عنه فارض عنه. قال الراوي عبدالله ابن مسعود : قال عبدالله بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحفرة .

وكان الصديق إذا دخل الميت اللحد قال: بسم الله وعلى ملة رسول الله ، وباليقين وبالبعث بعد الموت.

2- طلب الصديق من رسول الله الدعاء للمسلمين:

قال عمر بن الخطاب: خرجنا الى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستقطع حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل مابقي على كبده، فقال أبوبكر الصديق، يارسول الله إن الله قد عوّدك في الدعاء خيراً، فأدع الله، قال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه فلم يردهما حتى قالت السماء -أي تهيئت لإنزال مائها- فأظلت -أي أنزلت مطراً خفيفاً- ثم سكبت فملأوا مامعهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر .

3- نفقة الصديق في تبوك:

حث رسول الله الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته وكان عثمان صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة .

وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبابكر بذلك ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: أمرنا رسول الله يوماً أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت اليوم أسبق أبابكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله ، ماأبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبوبكر بكل ماعنده، فقال له رسول الله : ماأبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لاأسابقك الى شيء أبداً .

كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً ولكن حال الصديق أفضل منه لانه خال من المنافسة مطلقاً ولا ينظر الى غيره .

ب- الصديق أمير الحج سنة 9هـ:

كانت تربية المجتمع وبناء الدولة في عصر النبي مستمرة على كافة الأصعدة والمجالات العقائدية والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والعسكرية والتعبدية وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية، وحجة عام 8هـ بعد الفتح كُلِّف بها عتّاب بن أسيد، ولم تكن قد تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين ، فلما حل موسم الحج أراد الحج ولكنه قال: إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت، فلا أحب أن أ حج حتى لايكون ذلك فأرسل النبي الصديق أميراً على الحج سنة تسعة هجرية، فخرج أبوبكر الصديق بركب الحجيج نزلت سورة براءة فدعا النبي علياً  وأمره أن يلحق بأبي بكر الصديق، فخرج على ناقة رسول الله : العضباء حتى أدرك الصديق ابابكر بذي حليفة، فلما رآه الصديق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم سار، فأقام أبوبكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة لا في شهر ذي القعدة كما قيل، وقد خطب الصديق قبل التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم النفر الأول فكان يعرّف الناس مناسكهم: في وقوفهم وإفاضتهم، ونحرهم، ونفرهم، ورميهم للجمرات..الخ وعلي بن أبي طالب يخلفه في كل موقف من هذه المواقف فيقرأ على الناس صدر سورة براءة ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولايطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده الى مدته، ولايحج بعد العام مشرك .

وقد أمر الصديق ابا هريرة في رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته .

وقد كلف النبي علياً بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم من عقد العهود ونقضها أن لايتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العرف ليس فيه منافاة للاسلام فلذلك تدارك النبي الأمر وأرسل علياً بذلك فهذا هو السبب في تكليف علياً  بتبليغ صدر سورة براءة لا مازعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة الى أن علياً  أحق بالخلافة من أبي بكر وقد علق على ذلك الدكتور محمد ابو شهبة فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصديق له: أمير أم مأمور ؟ وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير .

وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة الوداع ، لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وماعلى الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، ايقنت تلك القبائل أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلاً فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد .

  في حجة الوداع:

روى الامام أحمد بسنده الى عبدالله بن الزبير عن أبيه أن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله حجاجاً حتى أدركنا العرج نزل رسول الله ، فجلست عائشة جنب النبي ، وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام لأبي بكر فجلس أبوبكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع وليس معه بعيره!! فقال: أين بعيرك؟ فقال: أظللته البارحة! فقال أبوبكر: بعير واحد تضله!! فطفق يضربه ورسول الله يبتسم ويقول: انظروا الى هذا المحرم وما يصنع .

 الصديق في المجتمع المدني وبعض صفاته وشيء من فضائله

كانت حياة الصديق في المجتمع المدني مليئة بالدروس والعبر وتركت لنا نموذجاً حياً لفهم الاسلام وتطبيقه في دنيا الناس وقد تميزت شخصية الصديق بصفات عظيمة ومدحه رسول الله في أحاديث كثيرة وبين فضله وتقدمه على كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمين.
أولاً: من مواقفه في المجتع المدني:
1- موقفه من فنحاص الحبر اليهودي:
ذكر غير واحد من كتّاب السيّر والمفسرين أن أبابكر دخل بيت المدارس( )، على يهود، فوجد منهم ناساً قد اجتمعوا الى رجل منهم، يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم، يقال له أشيع( )، فقال أبوبكر لفنحاص: ويحك! اتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمداً لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والانجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: ولله ياأبابكر، مابنا الى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ومانتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وماهو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ماستقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنياً ماأعطانا الربا فغضب أبوبكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك، أي عدو الله، فذهب فنحاص الى رسول الله ، فقال: يامحمد انظر ماصنع بي صاحبك. فقال رسول الله لأبي بكر: ماحملك على ماصنعت؟ فقال أبوبكر: يارسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص وقال: ماقلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص رداً عليه، وتصديقاً لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (سورة آل عمران، الآية: 181).
ونزل في ابي بكر الصديق ، ومابلغه في ذلك من الغضب( ) قوله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (سورة آل عمران، الآية:186).
2- حفظ سر النبي :
قال عمر بن الخطاب: تأيمت حفصة من خنيس بن حذافة، وكان مما شهد بدراً، فلقيت عثمان بن عفان فقلت: إن شئت انكحتك حفصة، فقال: أنظر ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبابكر فعرضتها عليه فصمت فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله  فأنكحتها إياه، ثم لقيني أبوبكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين لم أرجع إليك، فقلت: أجل فقال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلا أني علمت أن رسول الله  قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله  ولو تركها لنكحتها( ).
3- الصديق وآية صلاة الجمعة:
قال جابر بن عبدالله بينما النبي  يخطب يوم الجمعة، وقدمت عيُر المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله  حتى لم يبق معه  إلا اثنا عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سورة الجمعة، الآية 11) وقال: في الاثنىعشر الذين ثبتوا مع رسول الله  أبوبكر وعمر( ).
4- رسول الله  ينفي الخيلاء عن أبي بكر:
قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله : (من جر ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فقال أبوبكر: إن أحد شِقيَّ يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله : (إنك لست تصنع ذلك خُيلاء)( ).
5- الصديق وتحريه للحلال:
عن قيس بن أبي حازم قال: كان لأبي بكر غلام فكان إذا جاء بغلتَّه لم يأكل من غلته حتى يسأل، فإن كان شيئاً مما يحب أكل، وإن كان شيئاً يكره لم يأكل، قال: فنسي ليلة فأكل ولم يسأله، ثم سأله فأخبره أنه من شيء كرهه، فأدخل يده فتقيأ حتى لم يترك شيئاً( ).
فهذا مثال على ورع أبي بكر  حيث كان يتحرى الحلال في مطعمه ومشربه، ويتجنب الشبهات، وهذه الخصلة تدل على بلوغه درجات عُليا في التقوى، ولا يَخفَى أهمية طيب المطعم والمشرب والملبس في الدين، وعلاقة ذلك بإجابة الدعاء( )، كما في حديث الأشعث الأغبر وفيه: (يمد يديه الى السماء: يارب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك)( ).
6- أدخلاني في السلم، كما أدخلتماني في الحرب:
دخل أبوبكر الصديق  على النبي  فسمع صوت ابنته عائشة عالياً فلما اقترب منها تناولها ليلطمها وقال: اراك ترفعين صوتك على رسول الله، فجعل رسول الله بحجزه، وخرج أبوبكر مغضباً فقال النبي  لعائشة حين خرج أبوبكر: أرايت كيف أنقذتك من الرجل؟ فمكث أبوبكر أياماً، ثم أستأذن على رسول الله فوجدهما قد اصطلحا. فقال لهما: (أدخلاني في سلمكما، كما أدخلتماني في حربكما) فقال النبي : (قد فعلنا)( ).
7-أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر:
دخل أبوبكر على عائشة رضي الله عنهم في أيام العيد، وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان فقال أبوبكر : أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله ؟ وكان رسول الله  معرضاً بوجهه عنهما، مقبلاً بوجهه الكريم الى الحائط. فقال: دعهما ياأبابكر، فإن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا أهل الاسلام( )، ففي الحديث بيان : أن هذا لم يكن من عادة النبي  وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي  أقر الجواري عليه معللاً ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث: ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة( ). وكان لعائشة لُعَب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها، وليس في حديث الجاريتين أن النبي  استمع الى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لابمجرد السماع( ). ومن هذا نفهم أنه يرخص لمن يصلح له اللعب أن يلعب في الأعياد، كالجاريتين الصغيرتين من الأنصار اللتين تغنيان في العيد في بيت عائشة( ).
8- أكرامه للضيوف:
قال عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله  قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، وإن أبابكر جاء بثلاث... وإن أبابكر تعشى عند رسول الله  فجاء بعد أن مضى من الليل ماشاء الله تعالى فقالت له امرأته: ماحبسك عن أضيافك؟ أو قالت عن ضيفك، قال وماعشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، وقد عرضوا عليهم فغلبوهم قال: فذهبت أنا فاختبأت، فقال: ياعنثر( ) - فجدع وسب، وقال: كلوا هنيئاً وقال: والله لاأطعم أبداً، وحلف الضيف أن لايطعمه حتى يطعم أبوبكر، فقال أبوبكر: هذه من الشيطان، قال فدعا بالطعام فأكل، فقال: وأيم الله ماكنا نأخذ لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فقال حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها فإذا هي كما هي وأكثر فقال لأمرأته: ياأخت بني فراس ماهذا؟ قالت: لا وقرة عيني هي الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل أبوبكر وقال: إنما كان ذلك من الشيطان -يعني يمينه- ثم أكل منها لقمة ثم حملها الى رسول الله  فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين القوم عقد فمضى الأجل فتفرقنا اثنى عشر رجلاً مع كل واحد منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل منهم فأكلوا منها أجمعين( ).
وفي هذه القصة دروس وعبر منها:
أ- حرص الصديق على تطبيق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على إكرام الضيف مثل قوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} (سورة الذاريات، الآية 27).
وقوله : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيلكرم ضيفه)( ).
ب- وفي هذه القصة كرامة للصديق حيث جعل لايأكل لقمة إلا ربي من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبوبكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها الى رسول الله ، وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا( ) وهذه الكرامة حصلت ببركة اتباع الصديق لرسول الله  في كافة أحواله وهي تدل على مقام الولاية للصديق فأولياء الله هم المقتدون بمحمد  فيفعلون ماأمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياؤه المتقين( ).
ج- تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن أبابكر لم يحنث في يمين قط حتى أنزل الله كفارة اليمين، فقال: لا أحلف على يمين فرأيت غيرها خير منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني( )، فكان إذا حلف على شيء ورأى غيره خيراً منه كفر وأتى الذي هو خير( )، وفي هذه القصة مايدل على ذلك حيث ترك يمينه الاولى أكراماً لضيوفه وأكل معهم( ).
9- ماهي بأول بركتكم ياآل أبي بكر:
قالت عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول الله  في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء - أو بذات الجيش- انقطع عقد لي فأقام رسول الله  على التماسه، وأقام الناس معه، وليس على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبابكر فقالوا: ألاترى ماصنعت عائشة؟ أقامت برسول الله  وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبوبكر ورسول الله  واضع رأسه على فَخِذِي قد نام فقال: حِبَستٍ رسول الله  والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قلت: فعاتبين وقال ماشاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله  على فخذي فنام رسول الله  حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم:{....فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (سورة النساء، الآية43). فقال أسيد بن حضير: ماهي بأول بركتكم ياآل أبي بكر فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته)( ).
وفي هذه القصة يظهر حرص الصديق على التأدب مع رسوله، وحساسيته الشديدة على أن يضايقه شيئاً ولا يقبل ذلك ولو كان من أقرب الناس وأحبهم الى رسول الله ، كعائشة رضي الله عنهم، فقد كان  قدوة للدعاة في الأدب الجم مع النبي  ومع نفسه ومع المسلمين( ).
10- انتصار النبي للصديق رضي الله عنه:
لقد ثبت من الأحاديث الصحيحة مايدل على أن النبي  كان ينتصر لأبي بكر وينهى الناس عن معارضته، فعن أبي الدرداء  قال: كنت جالساً مع النبي  إذ أقبل ابوبكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي : (أما صاحبكم فقد غامر)( )، فسلم، وقال: يارسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إلي ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبي علي، فأقبلت إليك. فقال: يغفر الله لك ياأبابكر ثلاثاً. ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل : أثم أبوبكر؟ قالوا: لا. فأتى النبي  فسلم عليه، فجعل وجه رسول الله  يتمعر( )، حتى أشفق أبوبكر( ) فجثى على ركبتيه فقال يارسول الله: والله أنا كنت أظلم مرتين( )، فقال النبي : إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال ابوبكر: صدق، وواساني بنفسه وماله( )، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين. فما أوذي بعدها( ).
وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة منها؛ الطبيعة البشرية للصحابة ومايحدث بينهم من خلاف، وسرعة رجوع المخطئ وطلب المغفرة والصفح من أخيه، تواد الصحابة فيما بينهم، مكانة الصديق الرفيعة عند رسول الله  ثم أصحابه.......الخ.
11- قل: غفر الله لك ياأبابكر:
قال ربيعة الأسلمي : كنت أخدم النبي  ...وذكر حديثاً ثم قال: إن رسول الله  أعطاني بعد ذلك ارضاً وأعطى أبوبكر أرضاً وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت أنا: هي في حدِّي، وقال أبوبكر، هي في حدي، فكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال ابوبكر كلمة كرهها وندم فقال لي: ياربيعة رد عليها مثلها حتى تكون قصاصاً، قال: قلت: لا أفعل، فقال أبوبكر: لتقولن أو لاستعدين عليك رسول الله ، فقلت: ماأنا بفاعل، قال: ورفض الأرض( )، وأنطلق أبوبكر  الى النبي ، وانطلقت أتلوه، فجاء ناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبابكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله  وهو قد قال لك ماقال، قلت: اتدرون من هذا؟ هذا أبوبكر الصديق، هذا ثاني أثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله  فيغضب لغضبه فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة، قال: ماتأمرنا؟ قال: ارجعوا، قال: فانطلق أبوبكر  الى رسول الله  فتبعته وحدي حتى أتى النبي  فحدثه الحديث كما كان، فرفع إليّ رأسه فقال: ياربيعة مالك وللصديق؟ قلت: يارسول الله كان كذا كان كذا، قال لي كلمة كرهها فقال: قل لي كما قلت حتى يكون قصاصاً فابيت، فقال رسول الله : أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك ياأبابكر، فقلت: غفر الله لك ياأبابكر. قال الحسن (البصري): فولىَّ ابوبكر وهو يبكي( ).
(لله أي وجدان هذا الوجدان، وأي نفس تلك النفس، بادرة بدرت منها لمسلم فلم ترض إلا قتصاصه منها، وصفحه عنها، تناهيا بالفضيلة، واستمسكا بالأدب وشعوراً تمكن من الجوانح، وأخذ بمجامع القلوب، فكانت عنده زلة اللسان ولو صغيرة ألما يتململ منه الضمير فلا يستريح إلا بالقصاص منه، ورضا ذلك المسلم عنه)( ).
كانت كلمة هينة، ولكنها أصابت من ربيعة مَوجعاً..فإذا أبوبكر يُزَلزلُ من أجلها، ويأبى إلا القصاص عليها، مع أنه يومئذ كان الرجل الثاني في الاسلام بعد رسول الله ، وهي كلمة لايمكن أن تكون من فُحش القول أبداً: لأن أخلاقه لم تسمع بهذا، ولم يؤثر عنه حتى في الجاهلية شيء من هذا( ).
لقد خشي الصديق مغبة تلك الكلمة، ولهذا اشتكى لرسول الله ، وهذا أمر عجيب فإن أبابكر قد نسى أرضه ونسى قضية الخلاف، وشغل باله أمر تلك الكلمة لأن حقوق العباد لابد فيها من عفو صاحب الحق( )، وفي هذا درس للشيوخ والعلماء والحكام والدعاة في كيفية معالجة الأخطاء ومراعاة حقوق الناس وعدم الدوس عليها بالأرجل.
وقد استنكر قوم ربيعة أن يذهب أبوبكر يشتكي الى رسول الله وهو الذي قال ماقال، ولم يعلموا ماعلمه أبوبكر من لزوم إنهاء قضايا الخصومات، وإزالة ماقد يعلق في القلوب من الوجدة في الدنيا قبل أن يكتب ذلك في الصحف ويترتب عليه الحساب يوم القيامة.
وبالرغم مما ظهر من رضى ربيعة وتوجيه النبي الى عدم الرد على أبي بكر فإن أبابكر قد بكى من خشية الله تعالى، وهذا دليل على قوة إيمانه، ورسوخ يقينه.
وأخيراً موقف يذكر لربيعة بن كعب الأسلمي ، حيث قام بإجلال أبي بكر ، وأبى أن يرد عليه بالمثل، وهذا من تقدير أهل الفضل والتقدم والمعرفة بحقهم، وهو دليل على قوة الدين ورجاحة العقل

 
 وفاة الرسول، وسقيفة بني ساعدة، وجيش أسامة


وفاة الرسول

إن الأرواح الشفافة الصافية لتدرك بعض مايكون مخبوءاً وراء حجب الغيب بقدرة الله تعالى، والقلوب الطاهرة المطمئنة لتحدِّث صاحبها بما عسى أن يحدث له فيما يستقبل من الزمان، والعقول الذكية المستنيرة بنور الإيمان لتدرك ماوراء الألفاظ والأحداث من إشارات وتلميحات ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الصفات الحظ الأوفر، وهو منها بالمحل الأرفع الذي لايسامى ولا يطاول ولقد جاءت بعض الآيات القرآنية مؤكدة على حقيقة بشرية النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كغيره من البشر سوف يذوق الموت ويعاني سكراته كما ذاقه من قبل إخوانه من الأنبياء ولقد فهم من بعض الآيات اقتراب أجله، وقد أشار في طائفة من الأحاديث الصحيحة إلى اقتراب وفاته، منها ماهو صريح الدلالة على الوفاة ومنها ماليس كذلك، حيث لم يشعر ذلك منها إلا الآحاد من كبار الصحابة الأجلاء كأبي بكر والعباس ومعاذ رضي الله عنهم 0
1-مرض رسول الله وبدء الشكوى:
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع في ذي الحجة، فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفراً، من العام العاشر فبدأ بتجهيز جيش أسامة وأمرّ عليهم أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يتوجه نحو البلقاء وفلسطين، فتجهز الناس وفيهم المهاجرون والأنصار وكان أسامة بن زيد ابن ثماني عشرة سنة، وتكلم البعض في تأميره وهو مولى وصغير السن على كبار المهاجرين والأنصار فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم طعنهم في إمارة أسامة ،رضي الله عنهم فقال صلى الله عليه وسلم: إن يطعنوا في إمارته فقد طعنوا في إمارة أبيه وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان من أحبَّ الناس إليَّ وإن ابنه هذا لمن أحب الناس إلي بعده ، وبينما الناس يستعدون للجهاد في جيش أسامة ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم شكواه الذي قبضه فيه، وقد حدثت حوادث مابين مرضه ووفاته منها: زيارته قتلى أحد وصلاته عليهم ، واستئذانه أن يمرض في بيت عائشة وشدة المرض الذي نزل به ، وأوصى صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد ، ونهى عن اتخاذ قبره مسجداً ، وأوصى بإحسان الظن بالله عزوجل، وأوصى بالصلاة وماملكت أيمانكم ، وبين بأنه لم يبقى من مبشرات النبوة إلا الرؤيا ، وأوصى بالأنصار خيراً ، وخطب صلي اله عليه وسلم في أيام مرضه فقال: إن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ماعند الله فاختار ذلك العبد ماعند الله. فبكى أبو بكر فقال أبو سعيد الخدري : فعجبنا لبكائه أن يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن عبد خير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن أمَنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته، لايبقين في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر رضي الله عنه 0
قال الحافظ ابن حجر: وكأن أبا بكر رضي الله عنه فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى رضي الله عنه ولما اشتد المرض بالنبي صلى الله عليه وسلم وحضرته الصلاة فأذن بلال قال النبي صلى الله عليه وسلم مروا أبا بكر فليصلّ، فقيل: إن أبا بكر رجل أسيف رضي الله عنه ، إذا قام مقامك لم يستطيع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: أنكن صواحب يوسف( )، مروا أبا بكر فليصل بالناس، فخرج أبو بكر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفَّة فخرج يهادي بين رجلين، كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك ثم أتى به حتى جلس إلى جنبه. قيل للأعمش: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر! فقال برأسه: نعم رضي الله عنه. واستمر أبو بكر يصلي بالمسلمين، حتى إذا كان يوم الإثنين، وهم صفوف في صلاة الفجر، كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، ينظر إلى المسلمين، وهم وقوف أمام ربهم، ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده، وكيف نشأت أمة تحافظ على الصلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيها وغيبته، وقد قرت عينه بهذا المنظر البهيج، وبهذا النجاح الذي لم يقدر لنبي أو داع قبله، واطمأن أن صلة هذه الأمة بهذا الدين وعبادة الله تعالى، صلة دائمة، لاتقطعها وفاة نبيها، فملئ من السرور ماالله به عليم واستنار وجهه وهو منير ، يقول الصحابة رضي الله عنهم: كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر حجرة عائشة ينظر إلينا وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح، وظننا أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم، ودخل الحجرة، وأرخى الستر ، وانصرف بعض الصحابة إلى أعمالهم، ودخل أبو بكر على ابنته عائشة وقال: ما أرى رسول الله إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة- أحدى زوجتيه - وكانت تسكن بالسُّنح ، فركب على فرسه وذهب إلى منزله 0
واشتدت سكرات الموت بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه أسامة بن زيد وقد صمت فلا يقدر على الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة، فعرف أنه يدعو له، وأخذت السيدة عائشة رسول الله وأوسدته إلى صدرها بين سحرها ، ونحرها، فدخل عبدالرحمن بن أبي بكر وبيده سواك، فجعل رسول الله ينظر إليه، فقالت عائشة: آخذه لك، فأشار برأسه نعم، فأخذته من أخيها ثم مضغته ولينته وناولته إياه فاستاك به كأحسن مايكون الاستياك وكل ذلك وهو لاينفك عن قوله: في الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام ، وكان بجانبه ركوة ماء أو علبة فيها ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله .. إن للموت سكرات ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى .. حتى قبض ومالت يده ، وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم أعني على سكرات الموت 0
وفي رواية: أن عائشة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند الظهر يقول: اللهم اغفر لي، وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى
وقد ورد أن فاطمة رضي الله عنها قالت: واكرب أباه. فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه .. أجاب الله دعاه، يا أبتاه .. جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه .. إلى جبريل ننعاه فلما دفن قالت لأنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب 0
فارق رسول الله الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، وماترك عند موته ديناراً ولادرهماً، ولاعبداً، ولا أمة، ولاشيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضا جعلها صدقة( ) وتوفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير ، وكان ذلك يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ للهجرة بعد الزوال ، وله ثلاث وستون سنة ، وكان أشد الأيام سواداً ووحشة ومصاباً على المسلمين، ومحنة كبرى للبشرية، كما كان يوم ولدته أسعد يوم طلعت فيه الشمس ، يقول أنس رضي الله عنه : كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وبكت أم أيمن فقيل لها مايبكيك على النبي قالت: إني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت ولكن إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا 0
ثانياً: هول الفاجعة وموقف أبي بكر منها:
قال ابن رجب: ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومنهم من أعتُقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية
قال القرطبي مبيناً عظم هذه المصيبة وماترتب عليها من أمور: من أعظم المصائب المصيبة في الدين .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها أعظم المصائب( )، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه( ).
وقال ابن اسحاق: ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة فيما بلغني تقول: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية، والنصرانية ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم 0
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ... واضطربت الحال .. فكان موت النبي صلى الله عليه وسلم قاصمة الظهر، ومصيبة العمر، فأما علي فاستخفى في بيت فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر وقال: مامات رسول الله وإنما واعده ربه كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ولما سمع أبو بكر رضي الله عنه الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسُّنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلّم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغشّى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لايجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متها ، وخرج أبو بكر وعمر يتكلم فقال: اجلس ياعمر، وهو ماضي في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
أما بعد: فإن من كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (سورة آل عمران، آية:144). فنشج الناس يبكون 0
قال عمر: فوالله ما إن سمعت أبا بكر تلاها فهويت إلى الأرض ماتحملني قدماي، وعلمت أن رسول الله قد مات صلى الله عليه وسلم قال القرطبي: هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجرأة حدُّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولامصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم فظهرت شجاعته وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر، فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنح 0
وبهذه الكلمات القلائل، واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم خرج الناس من ذهولهم وحيرتهم ورجعوا إلى الفهم الصحيح رجوعاً جميلاً، فالله هو الحي وحده الذي لايموت، وأنه وحده الذي يستحق العبادة، وأن الإسلام باق بعد موت محمد ،صلى الله عليه وسلم كما جاء في رواية من قول الصديق: إن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله بين اظهرنا، وهو النور والشفاء وبه هدا الله محمد صلى الله عليه وسلم وفيه حلال الله وحرامه، والله لانبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ماوضعناها بعد، ولنجاهدنَّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبغين أحد إلا على نفسه 0
كان موت محمد صلى الله عليه وسلم مصيبة عظيمة، ابتلاءاً شديداً، ومن خلاها وبعدها ظهرت شخصية الصديق كقائد للأمة فذ لانظير له ولامثيل رضي الله عنه، فقد أشرق اليقين في قلبه وتجلى ذلك في رسوخ الحقائق فيه فعرف حقيقة العبودية، والنبوة، والموت، وفي ذلك الموقف العصيب ظهرت حكمته رضي الله عنه، فانحاز بالناس إلى التوحيد (من كان يعبد الله فإن الله حي لايموت) ومازال التوحيد في قلوبهم غضاً طرياً، فما أن سمعوا تذكير الصديق لهم حتى رجعوا إلى الحق تقول عائشة رضي الله عنها فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها 

  سقيفة بني ساعدة:
لما علم الصحابة رضي الله عنهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه وهو يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشر للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده .
والتف الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه ولما بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين وهم مجتمعون مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه لترشيح من يتولى الخلافة ، قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيباً( )، قال عمر رضي الله عنه: فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكر ماتمالأ عليه القوم. فقالا: أين تريدون يامعشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لاعليكم أن لاتقربوهم، اقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينَّهم( )، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمِّلُ بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ماله؟ قالوا: يُوعَك. فلما جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم -معشر المهاجرين- رهط، وقد دفت دافة من قومكم( )، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر( )، فلما سكت أردت أن أتكلم- وكنت قد زوَّرتُ مقالة أعجبتني أريد أن أقدّمها بين يدي أبي بكر- وكنت أداري منه بعض الحدِّ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك. فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت. فقال: ماذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيِّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم -فأخذ بيدي ويد أبي عُبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا- فلم أكره مما قال غيرها، والله أن أقدّم فتضرب عنقي لايُقرِّبني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تُسَوِّل إليَّ نفسي عند الموت شيئاً لاأجده الآن.
فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكَّك، وعُذيقُها المرجَّب ، منا أمير ومنكم أمير يامعشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار 0
وفي رواية أحمد:... فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولاذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم إلا وذكره، وقال: ولقد علمتم أن رسول الله قال: لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار، ولقد علمت ياسعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر فَبَرُّ الناس تبع لبّرِّهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم، قال فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء( ).
 

  أهم الدروس والعبر والفوائد في هذه الحادثة:
1-الصديق وتعامله مع النفوس وقدرته على الإقناع:
من رواية الإمام أحمد يتضح لنا كيف استطاع الصديق أبو بكر رضي الله عنه أن يدخل إلى نفوس الأنصار فيقنعهم بما رآه هو الحق من غير أن يُعرِّض المسلمين للفتنة، فأثنى على الأنصار ببيان ماجاء في فضلهم من الكتاب والسنة، والثناء على المخالف منهج إسلامي يقصد منه إنصاف المخالف وامتصاص غضبه وانتزاع بواعث الأثرة والأنانية في نفسه ليكون مهيّأ لقبول الحق إذا تبين له، وقد كان في هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأمثلة التي تدل على ذلك ثم توصل أبو بكر من ذلك إلى أن فضلهم وإن كان كبيراً لايعني أحقيتهم في الخلافة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نص على أن المهاجرين من قريش هم المقدِّمون في هذا الأمر( )، وقد ذكر ابن العربي المالكي أن أبا بكر استدل على أن أمر الخلافة في قريش بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار خيراً، وأن يقبلوا من محسنهم ويتجاوزا عن مسيئهم، احتج به أبو بكر على الأنصار قوله: إن الله سمانا (الصادقين) وسمّاكم (المفلحين) إشارة إلى قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَوَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر، آية:8-9). وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (سورة التوبة، آية:119). إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة والأدلة القوية. فتذكرت الأنصار ذلك وانقادت إليه( )، وبين الصديق في خطابه أن من مؤهلات القوم الذين يرشحون للخلافة أن يكونوا ممن يدين لهم العرب بالسيادة وتستقر بهم الأمور، حتى لاتحدث الفتن فيما إذا تولى غيرهم، وأبان أن العرب لايعترفون بالسيادة إلا للمسلمين من قريش لكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم ولما استقر في اذهان العرب من تعظيمهم واحترامهم.
وبهذه الكلمات النيرة التي قالها الصديق اقتنع الأنصار بأن يكونوا وزراء مُعينين وجنوداً مخلصين كما كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبذلك توحد صف المسلمين 0
2-زهد عمر وأبي بكر رضي الله عنهما في الخلافة وحرص الجميع على وحدة الأمة:
بعد أن تمّ أبو بكر حديثه في السقيفة قدّم عمر وأبا عبيدة للخلافة، ولكن عمر كره ذلك وقال فيما بعد: فلم أكره مما قال غيرها. كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لايقرِّبني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر 0
وبهذه القناعة من عمر بأحقية أبي بكر بالخلافة قال له: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، قال: فبايعته وبايعه المهاجرون والأنصار وجاء في رواية قال عمر: .. يامعشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر أن يؤمَّ الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر  فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر( ).
وهذا ملحظ مهم وُفِّق إليه عمر رضي الله عنه، وقد اهتم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته فأصرّ على إمامة أبي بكر، وهو من باب الإثارة بأنه أحق من غيره بالخلافة وكلام عمر في غاية الأدب والتواضع والتجرد من حظ النفس، ولقد ظهر زهد أبي بكر في الإمارة في خطبته التي اعتذر فيها من قبول الخلافة حيث قال: والله ماكنت حريصاً على الإمارة يوما ولاليلة قط ولاكنت فيها راغباً ولاسألتها الله عزوجل في سرّ وعلانية، ولكني أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة ولكن قلدت أمراً عظيماً مالي به من طاقة ولايد إلا بتقوية الله عزوجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني 0
وقد ثبت أنه قال: وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين، أبي عبيدة أو عمر فكان أمير المؤمنين وكنت وزيراً( )، وقد تكررت خطب أبي بكر في الاعتذار عن تولي الخلافة وطلبه بالتنحي عنها. فقد قال: ... أيها الناس هذا أمركم إليكم تولوا من أحببتم على ذلك وأكون كأحدكم فأجابه الناس رضينا بك قسماً وحظاً وأنت ثاني اثنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قام باستبراء نفوس المسلمين من أي معارضة لخلافته واستحلفهم على ذلك فقال: أيها الناس أذكر الله أيما رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه، فقال علي بن أبي طالب، ومعه السيف، فدنا منه حتى وضع رِجلاً على عتبة المنبر والأخرى على الحصى وقال: والله لانقيلك ولانستقيلك قدّمك رسول الله فمن ذا يؤخرك( )، ولم يكن أبو بكر وحده الزاهد في أمر الخلافة والمسؤولية بل إنها روح العصر. ومن هذه النصوص التي تمّ ذكرها يمكن القول: إن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة لايخرج عن هذا الاتجاه، بل يؤكد حرص الأنصار على مستقبل الدعوة الإسلامية واستعدادهم المستمر للتضحية في سبيلها، فما اطمأنوا على ذلك حتى استجابوا سراعاً لبيعة أبي بكر الذي قبل البيعة لهذه الأسباب، وإلا فإن نظرة الصحابة مخالفة لرؤية الكثير مما جاء بعدهم ممن خالفوا المنهج العلمي، والدراسة الموضوعية، بل كانت دراستهم متناقضة مع روح ذلك العصر، وآمال وتطلعات أصحاب رسول الله من الأنصار وغيرهم، وإذا كان اجتماع السقيفة أدى إلى انشقاق بين المهاجرين والأنصار كما زعمه بعضهم( )، فكيف قبل الأنصار بتلك النتيجة وهم أهل الديار وأهل العدد والعدة؟ وكيف انقادوا لخلافة أبي بكر ونفروا في جيوش الخلافة شرقاً وغرباً مجاهدين لتثبيت أركانها؟ لو لم يكونوا متحمسين لنصرتها( ).
فالصواب اتضح من حرص الأنصار على تنفيذ سياسة الخلافة والاندفاع لمواجهة المرتدين، وأنه لم يتخلف أحد من الأنصار عن بيعة أبي بكر فضلاً عن غيرهم من المسلمين وأن أخوة المهاجرين والأنصار أكبر من تخيلات الذين سطروا الخلاف بينهم في رواياتهم( ) المغرضة.

3-سعد بن عبادة رضي الله عنه وموقفه من خلافة الصديق:
إن سعد بن عبادة قد بايع أبا بكر رضي الله عنه بالخلافة في أعقاب النقاش الذي دار في سقيفة بني ساعدة إذ أنه نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالخلافة، وكان ابن عمه بشير بن سعد الأنصاري أول من بايع الصديق رضي الله عنهم في اجتماع السقيفة ولم يثبت النقل الصحيح أية أزمات، لابسيطة ولاخطيرة ولم يثبت أي انقسام أو فرق لكل منها مرشح يطمع في الخلافة كما زعم بعض كتاب التاريخ، ولكن الأخوة الإسلامية ظلت كما هي، بل ازدادت توثقاً كما يثبت ذلك النقل الصحيح، ولم يثبت النقل الصحيح تآمراً حدث بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة لاحتكار الحكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهم كانوا أخشى لله وأتقى من أن يفعلوا ذلك.
وقد حاول بعض الكتّاب من المؤرخين أصحاب الأهواء أن يجعلوا من سعد بن عبادة منافساً للمهاجرين يسعى للخلافة بشره، ويدبر لها المؤامرات، ويستعمل في الوصول إليها كل أساليب التفرقة بين المسلمين. هذا الرجل- إذا راجعنا تاريخه وتتبعنا مسلكه، وجدنا مواقفه مع الرسول  تجعله من الصفوة الأخيار، الذين لم تكن الدنيا أكبر همهم، ولامبلغ علمهم، فهو النقيب في بيعة العقبة الثانية حتى لجأت قريش إلى تعقبه قرب مكة وربطوا يديه إلى عنقه وأدخلوه مكة أسير حتى أنقذه منهم جبير بن مطعم بن عدي حيث كان يجيرهم في المدينة وهو من الذين شهدوا بدراً( ) وحظى بمقام أهل بدر ومنزلتهم عند الله، وكان من بيت جود وكرم وشهد له ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه -بعد الله- وعلى سعد بن معاذ كما في غزوة الخندق عندما استشارهم في إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن الفزاري، فكان رد السعدين يدل على عمق الإيمان وكمال التضحية( )، فمواقف سعد مشهورة ومعلومة، فهذا الصحابي الجليل صاحب الماضي المجيد في خدمة الإسلام والصحبة الصادقة لرسول الله لايعقل ولم يثبت أنه كان يريد أن يحي العصبية الجاهلية في مؤتمر السقيفة لكي يحصل في غمار هذه الفرقة على منصب الخلافة، كما أنه لم يثبت ولم يصح ماورد في بعض المراجع من أنه -بعد بيعة أبي بكر- كان لايصلي بصلاتهم ولايفيض في الحج بإفاضتهم( ) كأنما انفصل سعد بن عبادة عن جماعة المسلمين( )، فهذا باطل ومحض افتراء، فقد ثبت من خلال الروايات الصحيحة أن سعداً بايع أبا بكر، فعندما تكلم أبو بكر يوم السقيفة، فذكر فضل الأنصار وقال: ولقد علمتم أن رسول الله قال: لو سلك الناس وادياً، وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار( ) ثم ذكرّ سعد بن عبادة بقول فصل وحجة لاترد فقال: ولقد علمت ياسعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم قال سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء( )، فتتابع القوم على البيعة وبايع سعد( )، وبهذا تثبت بيعة سعد بن عبادة، وبها يتحقق إجماع الأنصار على بيعة الخليفة أبي بكر، ولايعود أي معنى للترويج لرواية باطلة، بل سيكون ذلك مناقضاً للواقع واتهاماً خطيراً، أن ينسب لسيد الأنصار العمل على شق عصا المسلمين، والتنكر لكل ماقدمه من نصرة وجهاد وإيثار للمهاجرين، والطعن بإسلامه من خلال ماينسب إليه من قول: لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، فكان لايصلي بصلاتهم ولايجمع بجماعتهم ولايقضي بفضائهم ولايفيض بإفاضتهم( ) أي في الحج.
إن هذه الرواية التي استغلت للطعن بوحدة المهاجرين والأنصار وصدق أخوتهم ماهي إلا رواية باطلة للأسباب التالية:
أن الراوي صاحب هوى وهو (إخباري تالف لايوثق به) ولاسيما في المسائل الخلافية.
قال الذهبي عن هذه الرواية واسنادها كما ترى ، أي في غاية الضعف أما متنها فهو يناقض سيرة سعد بن عبادة: ومافي عنقه من بيعة على السمع والطاعة، ولما روي عنه من فضائل 



 -مايروى من خلاف بين عمر والحباب بن المنذر:
أما مايروى عن تنازع في السقيفة بين عمر وبين الحباب بن المنذر السلمي الأنصاري، فالراجح أنه غير صحيح، وأن عمر لم يُغضب الحباب بن المنذر منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى عن عمر قال: فلما كان الحباب بن المنذر هو الذي يجيبني لم يكن لي معه كلام، لأنه كان بيني وبينه منازعة في حياة رسول الله فنهاني عنه فحلفت أن لاأكلمه كلمة تسؤوه أبداً( ).
كما أن مايروى عن الحباب في هذه المنازعة مخالف لما عُهد عنه من حكمة، ومن حسن تأتيه للأمور، إذ كان يلقب (بذي الرأي)( ) في عهد رسول الله وذلك لقبول مشورته في بدر وخيبر( )، وأما قول الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير، فقد سوغ ذلك وأوضح أنه لايقصد بذلك الوصول إلى الإمارة، فقال: فإنا والله ماننفس عليكم هذا الأمر ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوانهم( )، فقبل المهاجرون قوله وأقروا عذره ولاسيما أنهم شركاء في دماء من قتل من المشركين( ).
5-حديث الأئمة من قريش وموقف الأنصار منه:
ورد حديث الأئمة من قريش في الصحيحين، وكتب الحديث الأخرى، بألفاظ متعددة، ففي صحيح البخاري عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا الأمر في قريش لايعاديهم أحد إلا أكبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين( ) وفي صحيح مسلم لايزال الإسلام عزيزاً بخلفاء كلهم من قريش( ) وعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لايزال هذا الأمر في قريش مابقي منهم اثنان( )، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم( ) وعن بكير بن وهب الجزري قال: قال لي أنس بن مالك الأنصاري: أحدثك حديثاً ما أحدثه كل أحد، كنا في بيت من الأنصار فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف فأخذ بعضادتي الباب( )، فقال: الأئمة من قريش إن لهم عليكم حقاً، ولكم عليهم حقا مثل ذلك، ما إن استرحموا فرحموا وإن عاهدوا أوفوا وإن حكموا عدلوا( ) وفي فتح الباري أورد ابن حجر أحاديث كثيرة تحت باب الأمراء من قريش أسندها إلى كتب السنن والمسانيد والمصنفات( )، فالأحاديث في هذا الباب كثيرة لايكاد يخلوا منها كتاب من كتب الحديث، وقد رويت بألفاظ متعددة، إلا أنها متقاربة تؤكد جميعها أن الإمرة المشروعة في قريش، ويقصد بالإمرة الخلافة فقط أما ماسوى ذلك فتساوى فيه جميع المسلمين( )، وبمثل ما أوضحت الأحاديث النبوية الشريفة أن أمر الخلافة في قريش فإنها حذرت من الإنقياد الأعمى لهم، وأن هذا الأمر فيهم ما أقاموا الدين كما سلف في حديث معاوية وكما جاء في حديث أنس: إن استرحموا فرحموا، وإن عاهدوا أوفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين( )، وبهذا حذرت الأحاديث من اتباع قريش إن زاغوا عن الحكم بما أنزل الله فإن لم يمتثلوا ويطبقوا مثل هذه الشروط، فإنهم سيصبحون خطراً على الأمة وحذرت الأحاديث الشريفة من اتباعهم على غير ما أنزل الله ودعت إلى اجتنابهم والبعد عنهم واعتزالهم، لما سيترتب على مؤازرتهم آنذاك من مخاطر على مصير الأمة قال : إن هلاك أمتي أو فساد أمتي رؤوس أغيلمة سفهاء من قريش ، وعندما سئل : فما تأمرنا قال : لو أن الناس اعتزلوهم 0
ومن هذه النصوص تتضح الصورة لمسألة الأئمة من قريش، وأن الأنصار انقادوا لقريش ضمن هذه الضوابط وعلى هذه الأسس، وهذا ما أكدوه في بيعاتهم لرسول الله على السمع والطاعة، والصبر على الأثرة، وأن لاينازعوا الأمر أهله، إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان( )، فقد كان للأنصار تصور تام عن مسألة الخلافة، وأنها لم تكن مجهولة عندهم، وأن حديث الأئمة من قريش كان يرويه كثير منهم، وأن الذين لايعلمونه سكتوا عندما رواه لهم أبو بكر الصديق ولهذا لم يراجعه أحد من الأنصار عندما استشهد به، فأمر الخلافة تم بالتشاور والاحتكام إلى النصوص الشرعية والعقلية التي أثبتت أحقية قريش بها، ولم يسمع عن أحد من الأنصار بعد بيعة السقيفة أنه دعا نفسه بالخلافة، مما يؤكد اقتناع الأنصار وتصديقهم لما تمّ التوصل إليه من نتائج( )، وبهذا يتهافت ويسقط قول من قال أن حديث الأئمة من قريش شعار رفعته قريش لاستلاب الخلافة من الأنصار أو أنه: رأي لأبي بكر وليس حديثاً رواه عن الرسول، وإنما كان فكراً سياسياً قرشياً، كان شائعاً في ذلك العصر يعكس ثقل قريش في المجتمع العربي في ذلك الحين، وعلى هذا فإن نسبة هذه الأحاديث إلى أبي بكر وأنها شعار لقريش، ماهي إلا صورة من صورة التشويه التي يتعرض لها تاريخ العصر الراشدي وصدر الإسلام الذي قام أساساً على جهود المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، وعلى روابط الأخوة المتينة بين المهاجرين والأنصار 6-الآيات القرآنية التي فيها إشارة إلى خلافة الصديق:
وردت آيات في كتاب الله عزوجل فيها الإشارة إلى أن أبا بكر الصديق أحق الناس في هذه الأمة بخلافة سيد الأولين والآخرين وتلك الآيات هي:
أ-قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَصِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (سورة الفاتحة، آية:6-7). ووجه الدلالة أن أبا بكر رضي الله عنه فيمن أمر الله -جلاوعلا- عباده أن يسألوه أن يهديهم طريقهم وأن يسلك بهم سبيلهم وهم الذين أنعم الله عليهم وذكر منهم الصديقين في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (سورة النساء، آية:69). وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين، فدل ذلك على أنه واحد منهم بل هو المقدم فيهم ولما كان أبو بكر رضي الله عنه ممن طريقهم هو الصراط المستقيم فلا يبقى أي شك لدى العاقل في أنه أحق خلق الله في هذه الأمة بخلافة المصطفى صلى الله وسلم قال محمد بن عمر الرازي: قوله:{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَصِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم؟ فقال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} الآية ولاشك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ولو كان أبو بكر ظالاً لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه0
وقال محمد الأمين الشنقيطي: يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم
-أعني الفاتحة- بأن نسأله أن يهدينا صراطهم فدل على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله تعالى{اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين وقد بين  أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم وإن إمامته حق0
ب-قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة، آية:54).
هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات ووجه دلالة الآية على خلافة الصديق أنه (كان في علم الله سبحانه وتعالى مايكون بعد وفاة رسول الله صلى اللع عليه وسلم من ارتداد قوم فوعد سبحانه -ووعده صدق- أنه يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولايخافون لومة لائم، فلما وجد ماكان في علمه من ارتداد من ارتد بعد وفاة رسول الله وجد تصديق وعده بقيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقتالهم فجاهد بمن أطاعه من الصحابة من عصاه من الأعراب، ولم يخف في الله لومة لائم حتى ظهر الحق وزهق الباطل وصار تصديق وعده بعد وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم آية للعالمين ودلالة على صحة خلافة الصديق رضي الله عنه 0
جـ-قال تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، آية:40).
قال أبو عبدالله القرطبي: قال بعض العلماء في قوله تعالى:{ثاني اثنين إذ هما في الغار} مايدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الخليفة لايكون أبداً إلا ثانياً وسمعت شيخنا أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق أن يقال ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولاً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها ولم يبقى الإسلام إلا بالمدينة وجواثا( )، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين 0
ح- قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة التوبة، آية:100) الآية ووجه دلالة الآية على أحقية الصديق بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلمأن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلاشك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم وإذا ثبت هذا فإن أسبق الناس إلى الهجرة أبو بكر الصديق فإنه كان في خدمة المصطفى عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وإذا ثبت هذا صار محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله  فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما( ).
خ- قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة النور، آية:55).
هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق رضي الله عنه وعلى خلافة الثلاثة بعده فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف والتمكين في أمر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي دل ذلك على أن خلافتهم حق( )، وقال الحافظ بن كثير: وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية( ).
د-قال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (سورة الفتح، آية:16) قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالىوقد دل على إمامة أبي بكر في سورة براءة فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه : {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} (سورة التوبة، آية:83). وقال في سورة أخرى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يعني الى قوله: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} ثم قال الله تعالى {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا} وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} -يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم الى قتالكم- كما {تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (سورة الفتح، آيتان:
15-16). والداعي لهم إلى ذلك غير النبي  قال الله -عزوجل- له {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} وقال في سورة الفتح: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلاً لكلامه فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال مجاهد في قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيد}. هم فارس والروم وبه قال الحسن البصري. قال عطاء: هم فارس وهو أحد قولي ابن عباس رضي الله عنه ، وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو حنيفة يوم اليمامة فإن كانوا أهل اليمامة فقد قوتلوا في أيام أبي بكر: وهو الداعي إلى قتال مسيلمة وبني حنيفة من أهل اليمامة، وإن كانوا أهل فارس والروم( )، فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العاقد له الإمامة فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب أنه أفضل المسلمين0
هـ- قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، الآية: 8).
وجه دلالة هذه الآية على خلافته صلى الله عليه وسلم، أن الله عز وجل سماهم (صادقين) ومن شهد له الرب - جل وعلا- بالصدق فإنه لايقع في الكذب ولا يتخذه خلقاً بحال وقد أطبق هؤلاء الموصوفون بالصدق على تسمية الصديق صلى الله عليه وسلم، (خليفة رسول الله صلى اللهعليه وسلم ومن هنا كانت الآية دالة على ثبوت خلافته 0
7- الأحاديث التي أشارت الى خلافة أبي بكر :
وأما الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة إما على وجه التصريح أو الإشارة ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لايسع أهل البدعة إنكارها ومن تلك الأحاديث.
أ- عن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت- قال إن لم تجديني فأتي أبابكر رضي الله عنه 0
قال ابن حجر: وفي الحديث أن مواعيد النبي صلى الله عليه وسلم كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس 0
ب- عن حذيفة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: إني لا أدري ماقدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار الى أبي بكر وعمررضي الله عنهما (وتمسكوا بعهد عمار وماحدثكم ابن مسعود فصدقوه 0
فقوله صلى الله عليه وسلم : (اقتدوا باللذين من بعدي) أي: بالخيلفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبوبكر وعمررضي الله عنهما وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة 0
ت- عن أبي هريرة عن رسول الله قال: بينما أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس فجاءني أبوبكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني فنزع الدلوين وفي نزعه ضعف والله يغفر له فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر قال الشافعي رحمه الله: رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشعله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته( ).
ث- قالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: (ادعي لي أبابكر، وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر) 0
دل هذا الحديث دلالة واضحة على فضل الصديق رضي الله عنه حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره  وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع ووقع كل ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ثم اجتمعوا على أبي بكر رضي الله عنهما 0
ج- عن عبيد الله بن عبدالله قال: دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحديثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: بلى ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى بالناس. قلنا: لا وهم ينتظرونك يارسول الله. قال: ضعوا لي ماء في المخضب 0ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء ، فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس. قلنا: لا وهم ينتظرونك يارسول الله فقال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس. قلنا: لا وهم ينتظرونك يارسول الله؟ قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت: فأرسل رسول الله  الى أبي بكر أن يصلي بالناس فأتان الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال: أبوبكر، وكان رجلاً رقيقاً: ياعمر صلِ بالناس قال: فقال: عمر أنت أحق بذلك قالت: فصلى بهم أبوبكر تلك الأيام ثم إن رسول الله  وجد في نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبوبكر يصلي بالناس فلما رآه أبوبكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما: أجلساني الى جنبه. فأجلساه الى جنب أبي بكر وكان أبوبكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد. قال عبيدالله: فدخلت على عبدالله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ماحدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هات فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئاً غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت: لا قال: هو علي0
هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة منها: فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم، ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه لأن أبابكر رضي الله عنه لم يعدل الى غيره 0
د- قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار:منا أمير ومنكم أمير قال: فأتاهم عمر  فقال: يامعشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبابكر يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبابكر فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبابكر( ).
هـ- روى ابن سعد بإسناده الى الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي  قد قدم أبابكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبابكر 0
وقد علق أبو الحسن الأشعري على تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الصلاة فقال: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الاسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاماً) - قال ابن كثير- وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق وأرضاه0
هذا ولأهل السنّة قولان في إمامة أبي بكر من حيث الإشارة إليها بالنص الخفي أو الجلي، فمنهم من قال: إن إمامة أبي بكر ثابتة بالنص الخفي والإشارة وهذا القول ينسب الى الحسن البصري رحمه الله تعالى وجماعة من أهل الحديث( )، وهو رواية عن الامام أحمد بن حنبل ، رحمة الله عليه واستدل أصحاب هذا القول بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة وبأمره بسد الأبواب إلا باب أبي بكر، ومنهم من قال: إن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثابتة بالنص الجلي وهذا قول طائفة من أهل الحديث ، وبه قال أبومحمد بن حزم الظاهري ، واستدل هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: إن لم تجديني فأتي أبابكر ، وبقوله لعائشة رضي الله عنها: ادعي لي أبابكر وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر( )، وحديث رؤياه : أنه على حوض يسقى الناس فجاء أبوبكر فنزع الدلو من يده ليروحه)( ).
والذي أميل إليه ويظهر لي من خلال البحث: أن المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبابكر وإنما دلهم عليها لإعلام الله سبحانه وتعالى له بان المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية التي ورد بها القرآن والسنّة وفاق بها غيره من جميع الأمة المحمدية وأرضاه( ).
قال ابن تيمية رحمه الله: والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقوله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار رضي بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك... فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً قاطعاً للعذر ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبابكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصورد ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر...) الى أن قال: (فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه الى ماعملوه من تفضيل الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ماعلم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لايحتاج فيه الى عهد خاص( )



شارك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More